للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الظَّاهِرِ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالُوا: وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَالْوَصْفُ إِذَا ذُكِرَ عُقَيْبَ الْحُكْمِ، وَكَانَ الْوَصْفُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ لِأَنَّهُنَّ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ قَائِمَةٌ فِي الْكِتَابِيَّةِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً.

وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لَهُمْ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَتَلَا آيَةَ التَّحْرِيمِ وَآيَةَ التَّحْلِيلِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ الْحُرْمَةُ، فَلَمَّا تَعَارَضَ دَلِيلُ الْحُرْمَةِ تَسَاقَطَا، فَوَجَبَ بَقَاءُ/ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لَمَّا سُئِلَ عُثْمَانُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، فَقَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، فَحَكَمْتُمْ عِنْدَ ذَلِكَ بالتحريم للسبب الذي ذكرناه فكذا هاهنا.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لَهُمْ: حَكَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَحْرِيمَ أَصْنَافِ النِّسَاءِ إِلَّا الْمُؤْمِنَاتِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [الْمَائِدَةِ: ٥] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ كَالْمُرْتَدَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا.

الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: التَّمَسُّكُ بِأَثَرِ عُمَرَ: حُكِيَ أَنَّ طَلْحَةَ نَكَحَ يَهُودِيَّةً، وَحُذَيْفَةُ نَصْرَانِيَّةً، فَغَضِبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِمَا غَضَبًا شَدِيدًا، فَقَالَا: نَحْنُ نُطَلِّقُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا تَغْضَبْ، فَقَالَ: إِنْ حَلَّ طَلَاقُهُنَّ فَقَدْ حَلَّ نِكَاحُهُنَّ، وَلَكِنْ أَنْتَزِعُهُنَّ مِنْكُمْ.

أَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى بِأَنَّ مَنْ قَالَ: الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ اسْمِ الْمُشْرِكِ فَالْإِشْكَالُ عَنْهُ سَاقِطٌ، وَمَنْ سَلَّمَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْمَائِدَةِ: ٥] أَخَصُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ ثَبَتَتْ ثُمَّ زَالَتْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ: وَالْمُحْصَناتُ نَاسِخًا، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ جَعَلْنَاهُ مُخَصَّصًا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ النَّسْخَ وَالتَّخْصِيصَ خِلَافُ الْأَصْلِ، إلا أنه لما كان لا سبيل إلا التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ إِلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، أَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا إِنَّ تَحْرِيمَ نِكَاحِ الْوَثَنِيَّةِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَى النَّارِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي الْكِتَابِيَّةِ، قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُشْرِكَةَ مُتَظَاهِرَةٌ بِالْمُخَالَفَةِ وَالْمُنَاصَبَةِ، فَلَعَلَّ الزَّوْجَ يُحِبُّهَا، ثُمَّ إِنَّهَا تَحْمِلُهُ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الذِّمِّيَّةِ، لِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ رَاضِيَةٌ بِالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، فَلَا يُفْضِي حُصُولُ ذَلِكَ النِّكَاحِ إِلَى الْمُقَاتَلَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ ثَالِثًا إِنَّ آيَةَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ قَدْ تَعَارَضَتَا، فَنَقُولُ: لَكِنَّ آيَةَ التَّحْلِيلِ خَاصَّةٌ وَمُتَأَخِّرَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى آيَةِ التَّحْرِيمِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْآيَتَيْنِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ تَيْنِكَ الْآيَتَيْنِ أَخَصُّ مِنَ الْأُخْرَى مِنْ وَجْهٍ وَأَعَمُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَلَمْ يحصل سبب الترجيح فيه.

أما قوله هاهنا: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الْمَائِدَةِ: ٥] أَخَصُّ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ مُطْلَقًا، فَوَجَبَ حُصُولُ التَّرْجِيحِ.

وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [الْمَائِدَةِ: ٥] .

فَجَوَابُهُ: أَنَّا لَمَّا فَرَّقْنَا بَيْنَ الْكِتَابِيَّةِ وَبَيْنَ الْمُرْتَدَّةِ فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا فِي هَذَا الْحُكْمِ؟.