وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِأَثَرِ عُمَرَ فَقَدْ نَقَلْنَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَإِذَا حَصَلَ التَّعَارُضُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى يُؤْمِنَّ الْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَةِ وَالْتِزَامُ/ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَ هَذَا احْتَجَّتِ الْكَرَّامِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ وَقَالُوا إِنَّ الله تعالى جعل الإيمان هاهنا غاية التحريم والذي هو غاية التحريم هاهنا الْإِقْرَارُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقْرَارِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا بَيَّنَّا بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ:
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَةِ: ٣] أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [الْبَقَرَةِ: ٨] وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ الإقرار لكان قوله تعالى: ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ كَذِبًا وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [الْحُجُرَاتِ: ١٤] وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ لَكَانَ قَوْلُهُ: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا كَذِبًا، ثُمَّ أَجَابُوا عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ فَأُقِيمَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ مَقَامَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَزْوِيجِ الْمُشْرِكَاتِ قَالَ الْقَاضِي: كَوْنُهُمْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مُقْدِمِينَ عَلَى نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ إِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ لَا مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ امْتَنَعَ وَصْفُ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ يَجِبُ أَنْ يكون حُكْمَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ، أَمَّا إِنْ كَانَ جَوَازُ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ثَابِتًا مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَأَمَةٌ فِي إِفَادَةِ التَّوْكِيدِ تُشْبِهُ لَامَ الْقَسَمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الخير هو النفع الحسن: والمعنى: أن الشركة لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي الْمَالِ وَالْجِمَالِ وَالنَّسَبِ، فَالْأَمَةُ الْمُؤْمِنَةُ خَيْرٌ مِنْهَا لَأَنَّ الْإِيمَانَ مُتَعَلِّقٌ بِالدِّينِ وَالْمَالُ وَالْجَمَالُ وَالنَّسَبُ مُتَعَلِّقٌ بِالدُّنْيَا وَالدِّينُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَلِأَنَّ الدِّينَ أَشْرَفُ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ فَعِنْدَ التَّوَافُقِ فِي الدِّينِ تَكْمُلُ الْمَحَبَّةُ فَتَكْمُلُ مَنَافِعُ الدُّنْيَا مِنَ الصِّحَّةِ وَالطَّاعَةِ وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ لَا تَحْصُلُ الْمَحَبَّةُ، فَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ بِحُسْنِهَا أَوْ مَالِهَا أَوْ حُرِّيَّتِهَا أَوْ نَسَبِهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ بِالْأَمَةِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْوَاجِدَ لطول الحرة المشركة يجوز له التزوج بِالْأَمَةِ لَكِنَّ الْوَاجِدَ لِطَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ يَكُونُ لَا مَحَالَةَ وَاجِدًا لِطَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ لِأَنَّ سَبَبَ التَّفَاوُتِ فِي الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ لَا يَتَفَاوَتُ بِقَدْرِ الْمَالِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ فِي أُهْبَةِ النِّكَاحِ، / فَيَلْزَمُ قَطْعًا أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ لِطَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ لِطَيْفٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ يَقْتَضِي حُرْمَةَ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute