ثُمَّ قَوْلُهُ: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّزَوُّجِ بِالْمُشْرِكَةِ لِأَنَّ لَفْظَةَ أَفْعَلَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الصِّفَةِ وَلِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ.
قُلْنَا: نِكَاحُ الْمُشْرِكَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا، وَنِكَاحُ الْمُؤْمِنَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَنَافِعِ الْآخِرَةِ، وَالنَّفْعَانِ يَشْتَرِكَانِ في أصل كونهما نفعا، إلا أن نَفْعًا، إِلَّا أَنَّ نَفْعَ الْآخِرَةِ لَهُ الْمَزِيَّةُ الْعُظْمَى، فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا فَلَا خلاف هاهنا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكُلُّ وَأَنَّ الْمُؤْمِنَةَ لَا يَحِلُّ تَزْوِيجُهَا مِنَ الْكَافِرِ أَلْبَتَّةَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْكَفَرَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ فَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ: مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غَافِرٍ: ٤١] .
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَرُبَّمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِالنَّارِ أَصْلًا، فَكَيْفَ يَدْعُونَ إِلَيْهَا.
وَجَوَابُهُ: أَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَى النَّارِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ مَظِنَّةُ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْمُوَافَقَةَ فِي الْمَطَالِبِ وَالْأَغْرَاضِ، وَرُبَّمَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى انْتِقَالِ الْمُسْلِمِ عَنِ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ مُوَافَقَةِ حَبِيبِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: احْتِمَالُ الْمَحَبَّةِ حَاصِلٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَكَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَصِيرَ الْمُسْلِمُ كَافِرًا بِسَبَبِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، يُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَصِيرَ الْكَافِرُ مُسْلِمًا بِسَبَبِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَإِذَا تَعَارَضَ الِاحْتِمَالَانِ وَجَبَ أَنْ يَتَسَاقَطَا، فَيَبْقَى أَصْلُ الْجَوَازِ.
قُلْنَا: إِنَّ الرُّجْحَانَ لِهَذَا الْجَانِبِ لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَنْتَقِلَ الْكَافِرُ عَنْ كُفْرِهِ يَسْتَوْجِبُ الْمُسْلِمُ بِهِ مَزِيدَ ثَوَابٍ وَدَرَجَةٍ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَنْتَقِلَ الْمُسْلِمُ عَنْ إِسْلَامِهِ يَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ الْعَظِيمَةَ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَلْحَقَهُ مَزِيدُ نَفْعٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الضَّرَرِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ رَجَّحَ اللَّهُ تَعَالَى جَانِبَ الْمَنْعِ عَلَى جَانِبِ الْإِطْلَاقِ.
التَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى تَرْكِ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ، وَفِي تَرْكِهِمَا وُجُوبُ اسْتِحْقَاقِ النَّارِ وَالْعَذَابِ وَغَرَضُ هَذَا الْقَائِلِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا فَرْقًا بَيْنَ الذِّمِّيَّةِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا، فَإِنَّ الذِّمِّيَّةَ لَا تَحْمِلُ زَوْجَهَا عَلَى الْمُقَاتَلَةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي يَحْدِثُ رُبَّمَا دَعَاهُ الْكَافِرُ إِلَى الْكُفْرِ فَيَصِيرُ الْوَلَدُ مِنْ أَهْلِ/ النَّارِ، فَهَذَا هُوَ الدعوة إلى النار وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ حَيْثُ أَمَرَنَا بِتَزْوِيجِ الْمُسْلِمَةِ حَتَّى يَكُونَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
أَمَّا قوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَعْدَاءُ اللَّهِ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ فَلَا جَرَمَ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يدور حول المشركات اللواتي هُنَّ أَعْدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَنْكِحَ الْمُؤْمِنَاتُ فَإِنَّهُنَّ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَأَبَاحَ بَعْضَهَا