للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قُلْنَا: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ هَذِهِ الْمُدَّةَ يَدُلُّ عَلَى الأمرين والفاء في قوله: فَإِنْ فاؤُ وَرَدَ عَقِيبَ ذِكْرِهِمَا، فَيَكُونُ هَذَا الْحُكْمُ مَشْرُوعًا عَقِيبَ الْإِيلَاءِ، وَعَقِيبَ حُصُولِ التَّرَبُّصِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنَا أَنْزِلُ عِنْدَكُمْ فَإِنْ أَكْرَمْتُمُونِي بَقِيتُ وَإِلَّا تَرَحَّلْتُ، لِأَنَّ هُنَاكَ الْفَاءَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ ذَلِكَ النُّزُولِ، أَمَّا هَاهُنَا فَالْفَاءُ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ ذِكْرِ الْإِيلَاءِ وَذِكْرِ التَّرَبُّصِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَا دَخَلَ الْفَاءُ عَلَيْهِ وَاقِعًا عَقِيبَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرٌ.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِيقَاعِ الزَّوْجِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لَا بِإِيقَاعِ الزَّوْجِ.

فَإِنْ قِيلَ: الْإِيلَاءُ الطَّلَاقُ فِي نَفْسِهِ. فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ الْإِيلَاءُ الْمُتَقَدِّمُ.

قُلْنَا: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَإِنْ عَزَمَ الَّذِينَ يُؤْلُونَ الطَّلَاقَ، فَجَعَلَ الْمُؤْلِي عَازِمًا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْإِيلَاءُ وَالْعَزْمُ قَدِ اجْتَمَعَا، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَهُوَ مُتَعَلِّقُ الْعَزْمِ، وَمُتَعَلِّقُ الْعَزْمِ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْعَزْمِ، فَإِذًا الطَّلَاقُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْعَزْمِ لَا مَحَالَةَ، وَالْإِيلَاءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلْعَزْمِ أَوْ مُتَقَدِّمًا، وَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُغَايِرٌ لِذَلِكَ الْإِيلَاءِ وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرٌ.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَقْتَضِي أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الزَّوْجِ شَيْءٌ يَكُونُ مَسْمُوعًا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنْ نَقُولَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ فَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ وَطَلَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِكَلَامِهِمْ، عَلِيمٌ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِذَلِكَ الْإِيلَاءِ.

قُلْنَا: هَذَا يَبْعُدُ لِأَنَّ هَذَا التَّهْدِيدَ لَمْ يَحْصُلْ عَلَى نَفْسِ الْإِيلَاءِ، بَلْ إِنَّمَا حَصَلَ عَلَى شَيْءٍ حَصَلَ بَعْدَ الْإِيلَاءِ، وَهُوَ كَلَامٌ غَيْرُهُ حَتَّى يَكُونَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تَهْدِيدًا عَلَيْهِ.

الحجة الرابعة: أن قوله تعالى: فَإِنْ فاؤُ ... وَإِنْ عَزَمُوا ظَاهِرُهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَقْتُ ثُبُوتِهِمَا وَاحِدًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.

الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ الْإِيلَاءَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، بَلْ هُوَ حَلِفٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْجِمَاعِ/ مُدَّةً مَخْصُوصَةً إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ ضَرَبَ مِقْدَارًا مَعْلُومًا مِنَ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَتْرُكُ جِمَاعَ الْمَرْأَةِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ لَا بِسَبَبِ الْمُضَارَّةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الزَّمَانُ قَصِيرًا، فَأَمَّا تَرْكُ الْجِمَاعِ زَمَانًا طَوِيلًا فَلَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ قَصْدِ الْمُضَارَّةِ، وَلَمَّا كَانَ الطُّولُ وَالْقِصَرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَمْرًا غَيْرَ مَضْبُوطٍ، بَيَّنَ تَعَالَى حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ الْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ، فَعِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ تَبَيَّنَ قَصْدُ الْمُضَارَّةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْبَتَّةَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، بَلِ اللَّائِقُ بِحِكْمَةِ الشَّرْعِ عِنْدَ ظُهُورِ قَصْدِ الْمُضَارَّةِ أَنَّهُ يُؤْمَرُ إِمَّا بِتَرْكِ الْمُضَارَّةِ أَوْ بِتَخْلِيصِهَا مِنْ قَيْدِ الْإِيلَاءِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا قُلْنَا فِي ضَرْبِ الْأَجَلِ فِي مُدَّةِ الْعِنِّينِ وَغَيْرِهِ حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مسعود قرأ، فإن فاؤ فِيهِنَّ.

وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ: أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ مَرْدُودَةٌ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ قُرْآنًا وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِالتَّوَاتُرِ فَحَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ قَطَعْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَأَوْلَى النَّاسِ بِهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ بِهَذَا الْحَرْفِ تَمَسَّكَ فِي أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ مِنَ