حُجَّةُ الْقَوْلِ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ ثُمَّ يَقْرَبُهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ ثُمَّ يُكَلِّمُهَا وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْقَدِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا اللَّهُ هَاهُنَا، لِأَنَّ الْحَاجَةَ هَاهُنَا دَاعِيَةٌ إِلَى/ مَعْرِفَتِهَا، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا لَمْ يَذْكُرْ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ نَبَّهَ عَلَى سُقُوطِهَا بِقَوْلِهِ: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَالْغُفْرَانُ يُوجِبُ تَرْكَ الْمُؤَاخَذَةِ وَلِلْأَوَّلَيْنِ أَنْ يُجِيبُوا فَيَقُولُوا: إِنَّمَا تَرَكَ الْكَفَّارَةَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَهَا فِي الْقُرْآنِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: غَفُورٌ رَحِيمٌ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعِقَابِ، لَكِنْ عَدَمُ الْعِقَابِ لَا يُنَافِي وُجُوبَ الْفِعْلِ، كَمَا أَنَّ التَّائِبَ عَنِ الزِّنَا وَالْقَتْلِ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَلِفُ فِي الْإِيلَاءِ بِغَيْرِ الله كما إذا قال: إن وطأتك فَعَبْدِي حُرٌّ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ ضَرَّتُكِ طَالِقٌ، أَوْ أَلْزَمَ أَمْرًا فِي الذِّمَّةِ، فَقَالَ: إن وطأتك فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ صَوْمٌ، أَوْ حَجٌّ، أَوْ صَلَاةٌ، فَهَلْ يَكُونُ مُولِيًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا يَكُونُ مُولِيًا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ دَلِيلُهُ أَنَّ الْإِيلَاءَ مَعْهُودٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَعْهُودُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ، وَأَيْضًا
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ،
فَمُطْلَقُ الْحَلِفِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْحَلِفُ بِاللَّهِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَجَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّ لَفْظَ الْإِيلَاءِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَعَلَّقَ الْقَوْلَيْنِ فَيَمِينُهُ مُنْعَقِدَةٌ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَلَّقَ بِهِ عِتْقًا أَوْ طَلَاقًا، فَإِذَا وَطِئَهَا يَقَعُ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقُ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ بِهِ الْتِزَامَ قُرْبَةٍ فِي الذِّمَّةِ فَعَلَيْهِ مَا فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا: أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَبَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى، وَفَائِدَةُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا فَبَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَضِيقُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَكُونُ مُولِيًا لَا يَضِيقُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ فَالْأَوَّلُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَحْلِفَ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا أَبَدًا وَالثَّانِي: قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِسْحَاقَ: إِنَّ أَيَّ مُدَّةٍ حَلِفَ عَلَيْهَا كَانَ مُولِيًا وَإِنْ كَانَتْ يَوْمًا، وَهَذَانَ الْمَذْهَبَانِ فِي غَايَةِ التَّبَاعُدِ وَالثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يحلف على أنه لَا يَطَأَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ فِيمَا زَادَ وَالرَّابِعُ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ مُوِلِيًا حَتَّى تَزِيدَ الْمُدَّةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ إِذَا آلَى مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أُجِّلَ أَرْبَعَةً، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تَكُونُ حَقًّا لِلزَّوْجِ، فَإِذَا مَضَتْ تُطَالِبُ الْمَرْأَةُ الزَّوْجَ بِالْفَيْئَةِ أَوْ بِالطَّلَاقِ، فَإِنِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْهُمَا طَلَّقَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أشهر يقع الطلاق بنفسه، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ مِنْ وُجُوهٍ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْفَاءَ في قوله: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ/ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تَقْتَضِي كَوْنَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ مَشْرُوعَيْنِ مُتَرَاخِيًا عَنِ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ فاؤُ ... وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ وَالتَّفْصِيلُ يَعْقُبُ الْمُفَصَّلَ، كَمَا تَقُولُ: أَنَا أَنْزِلُ عِنْدَكُمْ هَذَا الشَّهْرَ فَإِنْ أَكْرَمْتُمُونِي بَقِيتُ مَعَكُمْ وَإِلَّا تَرَحَّلْتُ عَنْكُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute