للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

«الْكَشَّافِ» : إِنَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْوَالِدَاتِ إِنَّمَا وَلَدْنَ الْأَوْلَادَ لِلْآبَاءِ، وَلِذَلِكَ يُنْسَبُونَ إليهم لا إلى الأمهات وأنشد للمأمون بن الرَّشِيدِ:

وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْآبَاءِ أَبْنَاءُ

الثَّانِي: أَنَّ هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَلْتَحِقُ بِالْوَالِدِ لِكَوْنِهِ مَوْلُودًا عَلَى فِرَاشِهِ عَلَى مَا

قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ»

فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ لِلرَّجُلِ وَعَلَى فِرَاشِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ رِعَايَةُ مَصَالِحِهِ، فَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ النَّسَبِ وَاللَّحَاقِ مُجَرَّدُ هَذَا الْقَدْرِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قيل في تفسير قوله: ابْنَ أُمَ

[طه: ٩٤] أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ الْأُمَّ مُشْفِقَةٌ عَلَى الْوَلَدِ، فَكَانَ الْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ الْأُمِّ تَذْكِيرُ الشَّفَقَةِ، فَكَذَا هَاهُنَا ذَكَرَ الْوَالِدَ بِلَفْظِ الْمَوْلُودِ لَهُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ إِنَّمَا وُلِدَ لِأَجْلِ الْأَبِ، فَكَانَ نَقْصُهُ عَائِدًا إِلَيْهِ، وَرِعَايَةُ مَصَالِحِهِ لَازِمَةً لَهُ، كَمَا قِيلَ: كَلِمَةٌ لَكَ، وَكَلِمَةٌ عَلَيْكَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا وَصَّى الْأُمَّ بِرِعَايَةِ جَانِبِ الطِّفْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وَصَّى الْأَبَ بِرِعَايَةِ جَانِبِ الْأُمِّ حَتَّى تَكُونَ قَادِرَةً عَلَى رِعَايَةِ/ مَصْلَحَةِ الطِّفْلِ فَأَمَرَهُ بِرِزْقِهَا وَكِسْوَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ يَكُونُ مَحْدُودًا بِشَرْطٍ وَعَقْدٍ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَحْدُودٍ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَامَ بِمَا يَكْفِيهَا فِي طَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا، فَقَدِ اسْتَغْنَى عَنْ تَقْدِيرِ الْأُجْرَةِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ لَحِقَهَا مِنَ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ، فَضَرَرُهَا يَتَعَدَّى إِلَى الْوَلَدِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَّى الْأُمَّ بِرِعَايَةِ الطِّفْلِ أَوَّلًا، ثُمَّ وَصَّى الْأَبَ بِرِعَايَتِهِ ثَانِيًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ احْتِيَاجَ الطِّفْلِ إِلَى رِعَايَةِ الْأُمِّ أَشَدُّ مِنِ احْتِيَاجِهِ إِلَى رِعَايَةِ الْأَبِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الطِّفْلِ وَبَيْنَ رِعَايَةِ الْأُمِّ وَاسِطَةٌ الْبَتَّةَ، أَمَّا رِعَايَةُ الْأَبِ فَإِنَّمَا تَصِلُ إِلَى الطِّفْلِ بِوَاسِطَةٍ، فَإِنَّهُ يَسْتَأْجِرُ الْمَرْأَةَ عَلَى إِرْضَاعِهِ وَحَضَانَتِهِ بِالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْأُمِّ أَكْثَرُ مِنْ حَقِّ الْأَبِ، وَالْأَخْبَارُ الْمُطَابِقَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّكْلِيفُ: الْإِلْزَامُ، يُقَالُ: كَلَّفَهُ الْأَمْرَ فَتَكَلَّفَ وَكُلِّفَ، وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ مِنَ الْكَلْفِ، وَهُوَ الْأَثَرُ عَلَى الْوَجْهِ مِنَ السَّوَادِ، فَمَعْنَى تَكَلَّفَ الْأَمْرَ اجْتَهَدَ أَنْ يُبَيِّنَ فِيهِ أَثَرَهُ وَكَلَّفَهُ أَلْزَمَهُ مَا يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُهُ، وَالْوُسْعُ مَا يَسَعُ الإنسان فيطيقه أَخْذَهُ، مِنْ سِعَةِ الْمُلْكِ أَيِ الْعَرَضِ، وَلَوْ ضَاقَ لَعَجَزَ عَنْهُ، وَالسِّعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقُدْرَةِ، فَلِهَذَا قِيلَ: الْوُسْعُ فَوْقَ الطَّاقَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ أَبَ هَذَا الصَّبِيِّ لَا يُكَلَّفُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ، إِلَّا مَا تَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَتُهُ، لِأَنَّ الْوُسْعَ فِي اللُّغَةِ مَا تَتَّسِعُ لَهُ الْقُدْرَةُ، وَلَا يَبْلُغُ اسْتِغْرَاقَهَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْأَبَ إِلَّا ذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ثُمَّ بَيَّنَ فِي النَّفَقَةِ أَنَّهَا عَلَى قَدْرِ إِمْكَانِ الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا [الطَّلَاقِ: ٦، ٧] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ الْعِبَادَ إِلَّا مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا إِلَّا مَا تَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَتُهُ، وَالْوُسْعُ فَوْقَ الطَّاقَةِ، فَإِذَا لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا لَا تَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَتُهُ، فَبِأَنْ لَا يُكَلِّفَهُ مَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْلَى.