هِيَ صُورَةٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ أَوْ يَاقُوتٍ لَهَا رَأْسٌ كَرَأْسِ الْهِرِّ، وَذَنَبٌ كَذَنَبِهِ، فَإِذَا صَاحَتْ كَصِيَاحِ الْهِرِّ ذَهَبَ التَّابُوتُ نَحْوَ الْعَدُوِّ وَهُمْ يَمْضُونَ مَعَهُ فَإِذَا وَقَفَ وَقَفُوا وَنَزَلَ النَّصْرُ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: إِنَّ السَّكِينَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي التَّابُوتِ شَيْءٌ لَا يُعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّكِينَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الثَّبَاتِ وَالْأَمْنِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ الْغَارِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الْفَتْحِ: ٢٦] فَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ مَعْنَاهُ الْأَمْنُ وَالسُّكُونُ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حَصَلَ فِي التَّابُوتِ شَيْءٌ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: فِيهِ سَكِينَةٌ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ التَّابُوتِ ظَرْفًا لِلسَّكِينَةِ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى
فَكَمَا أَنَّ التَّابُوتَ كَانَ ظَرْفًا لِلْبَقِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلسَّكِينَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ كَلِمَةَ فِي كَمَا تَكُونُ لِلظَّرْفِيَّةِ فَقَدْ تَكُونُ لِلسَّبَبِيَّةِ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ»
وَقَالَ: «فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ»
أَيْ بِسَبَبِهِ فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فِيهِ سَكِينَةٌ أَيْ بِسَبَبِهِ تَحْصُلُ السَّكِينَةُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَقِيَّةً مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ مِنَ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ بِسَبَبِ هَذَا التَّابُوتِ يَنْتَظِمُ أَمْرُ مَا بَقِيَ من دينها وَشَرِيعَتِهِمَا.
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَقِيَّةِ شَيْءٌ كَانَ مَوْضُوعًا فِي التَّابُوتِ فَقَالُوا: الْبَقِيَّةُ هِيَ رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ وَعَصَا مُوسَى وَثِيَابُهُ وَشَيْءٌ مِنَ التَّوْرَاةِ وَقَفِيزٌ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ آلِ مُوسَى وَآلِ هَارُونَ هُوَ مُوسَى وَهَارُونَ أَنْفُسَهُمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: «لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ»
وَأَرَادَ بِهِ دَاوُدَ نَفْسَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ آلِ دَاوُدَ مِنَ الصَّوْتِ الْحَسَنِ مِثْلَ مَا كَانَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى آلِ مُوسَى وَآلِ هَارُونَ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّابُوتَ قَدْ تَدَاوَلَتْهُ الْقُرُونُ بَعْدَهُمَا إِلَى وَقْتِ طَالُوتَ، وَمَا فِي التَّابُوتِ أَشْيَاءُ تَوَارَثَهَا الْعُلَمَاءُ مِنْ أَتْبَاعِ مُوسَى وَهَارُونَ، فَيَكُونُ الْآلُ هُمُ الْأَتْبَاعُ، قَالَ تَعَالَى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِرٍ: ٤٦] .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُعْجِزَةٌ بَاهِرَةٌ إِنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ فِيهِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا يَظْهَرُ بِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ بَاقِي الْكَلَامِ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُمْ بِآيَةِ التَّابُوتِ أَذْعَنُوا لَهُ، وَأَجَابُوا إِلَى الْمَسِيرِ تَحْتَ رَايَتِهِ. فَلَمَّا فَصَلَ بِهِمْ أَيْ فَارَقَ بِهِمْ حَدَّ بَلَدِهِ وَانْقَطَعَ عَنْهُ، وَمَعْنَى الْفَصْلِ الْقَطْعُ، يُقَالُ: قَوْلٌ فَصْلٌ، إِذَا كَانَ يَقْطَعُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَفَصَلْتُ اللحم عن