للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالضَّمِّ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْغُرْفَةُ بِالضَّمِّ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ الَّذِي يَحْصُلُ فِي الْكَفِّ، وَالْغَرْفَةُ بِالْفَتْحِ الْفِعْلُ، وَهُوَ الِاغْتِرَافُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمِثْلُهُ الْأُكْلَةُ وَالْأَكْلَةُ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَأْكُلُ فِي النَّهَارِ أَكْلَةً وَاحِدَةً، وَمَا أَكَلْتُ عِنْدَهُمْ إِلَّا أُكْلَةً بِالضَّمِّ أَيْ شَيْئًا قَلِيلًا كَاللُّقْمَةِ، وَيُقَالُ: الْحُزَّةُ مِنَ اللَّحْمِ بِالضَّمِّ لِلْقِطْعَةِ الْيَسِيرَةِ مِنْهُ، وَحَزَزْتُ اللَّحْمَ حَزَّةً أَيْ قَطَعْتُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَنَحْوُهُ: الْخُطْوَةُ وَالْخَطْوَةُ بِالضَّمِّ مِقْدَارُ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ، وَالْخَطْوَةِ أَنْ يَخْطُوَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: غَرْفَةٌ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى قَلِيلِ مَا فِي يَدِهِ وَكَثِيرِهِ وَالْغُرْفَةُ بِالضَّمِّ اسْمُ مِلْءِ/ الْكَفِّ أَوْ مَا اغْتُرِفَ بِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلَةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، إِلَّا أَنَّهَا قُدِّمَتْ فِي الذِّكْرِ لِلْعِنَايَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَتِ الْغُرْفَةُ يَشْرَبُ مِنْهَا هُوَ وَدَوَابُّهُ وَخَدَمُهُ، وَيَحْمِلُ مِنْهَا.

وَأَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَاءِ مَا شَاءَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، بِغُرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، بِحَيْثُ كَانَ الْمَأْخُوذُ فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ يَكْفِيهِ وَلِدَوَابِّهِ وَخَدَمِهِ، وَلِأَنْ يَحْمِلَهُ مَعَ نَفْسِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْقَلِيلَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ الْبَرَكَةَ فِيهِ حَتَّى يَكْفِيَ لِكُلِّ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا كَانَ مُعْجِزَةً لِنَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَرْوِي الْخَلْقَ الْعَظِيمَ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أُبَيٌّ وَالْأَعْمَشُ إِلَّا قَلِيلٌ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهَذَا بِسَبَبِ مَيْلِهِمْ إِلَى الْمَعْنَى، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَشَرِبُوا مِنْهُ فِي مَعْنَى: فَلَمْ يُطِيعُوهُ، لَا جَرَمَ حَمَلَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمْ يُطِيعُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ أَنْ يَتَمَيَّزَ الصِّدِّيقُ عَنِ الزِّنْدِيقِ، وَالْمُوَافِقُ عَنِ الْمُخَالِفِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ يَكُونُونَ أَهْلًا لِهَذَا الْقِتَالِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَشْرَبُونَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَأْذُونًا فِي هَذَا الْقِتَالِ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِمْ نَفْرَةٌ شَدِيدَةٌ عَنْ ذَلِكَ الْقِتَالِ، لَا جَرَمَ أَقْدَمُوا عَلَى الشُّرْبِ، فَتَمَيَّزَ الْمُوَافِقُ عَنِ الْمُخَالِفِ، وَالصَّدِيقُ عَنِ الْعَدُوِّ، وَيُرْوَى أَنَّ أَصْحَابَ طَالُوتَ لَمَّا هَجَمُوا عَلَى النَّهْرِ بَعْدَ عَطَشٍ شَدِيدٍ، وَقَعَ أَكْثَرُهُمْ فِي النَّهْرِ، وَأَكْثَرُوا الشُّرْبَ، وَأَطَاعَ قَوْمُ قَلِيلٌ مِنْهُمْ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى الِاغْتِرَافِ، وَأَمَّا الَّذِينَ شَرِبُوا وَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ فَاسْوَدَّتْ شِفَاهُهُمْ وَغَلَبَهُمُ الْعَطَشُ وَلَمْ يُرْوَوْا، وَبَقُوا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ، وَجَبُنُوا عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَأَمَّا الَّذِينَ أَطَاعُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَوِيَ قَلْبُهُمْ وَصَحَّ إِيمَانُهُمْ، وَعَبَرُوا النَّهْرَ سَالِمِينَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَلِيلُ الَّذِي لَمْ يَشْرَبْ قِيلَ: إِنَّهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَالْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى عَدَدِ أَهْلِ بَدْرٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ حِينَ عَبَرُوا النَّهَرَ وَمَا جَازَ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ،

قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: وَكُنَّا يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا.