أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الَّذِينَ عَصَوُا اللَّهَ وَشَرِبُوا مِنَ النَّهْرِ رَجَعُوا إِلَى بَلَدِهِمْ وَلَمْ يَتَوَجَّهْ مَعَهُ إِلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ إِلَّا مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى فِي بَابِ الشُّرْبِ مِنَ النَّهْرِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ رُجُوعَهُمْ إِلَى بَلَدِهِمْ كَانَ قَبْلَ عُبُورِ النَّهْرِ أَوْ بَعْدَهُ، وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا عَبَرَ مَعَهُ إِلَّا الْمُطِيعُ، وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِأُمُورٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ الَّذِينَ وَافَقُوهُ فِي تِلْكَ الطَّاعَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ الْعَسْكَرِ، ثُمَّ خَصَّ الْمُطِيعِينَ بِأَنَّهُمْ عَبَرُوا النَّهْرَ، عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا عَبَرَ النَّهْرَ أَحَدٌ إِلَّا الْمُطِيعِينَ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ طَالُوتَ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أَيْ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِي فِي سَفَرِي، كَالرَّجُلِ الَّذِي يَقُولُ لِغَيْرِهِ: لَسْتَ أَنْتَ مِنَّا فِي هَذَا الْأَمْرِ، قَالَ: وَمَعْنَى فَشَرِبُوا مِنْهُ أَيْ لِيَتَسَبَّبُوا بِهِ إِلَى الرُّجُوعِ، وَذَلِكَ لِفَسَادِ دِينِهِمْ وَقَلْبِهِمْ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُطِيعُ عَنِ الْعَاصِي وَالْمُتَمَرِّدِ، حَتَّى يَصْرِفَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ وَيَرُدَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدُّوا عِنْدَ حُضُورِ الْعَدُوِّ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ لَيْسَ إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ صَرَفَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَا أَذِنَ لَهُمْ فِي عُبُورِ النَّهْرِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتَصْحَبَ كُلَّ جُنُودِهِ وَكُلُّهُمْ عَبَرُوا النَّهْرَ وَاعْتَمَدُوا فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ طَالُوتَ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِ الْمُنْقَادِ لِأَمْرِ رَبِّهِ، بَلْ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ الْمُنَافِقِ أَوِ الْفَاسِقِ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ، وَبَيَانُ ضَعْفِهَا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ طَالُوتَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى مُجَاوَزَةِ النَّهْرِ وَتَخَلَّفَ الْأَكْثَرُونَ ذَكَرَ الْمُتَخَلِّفُونَ أَنَّ عُذْرَنَا فِي هَذَا التَّخَلُّفِ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ فَنَحْنُ مَعْذُورُونَ فِي هَذَا التَّخَلُّفِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جاوَزَهُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ طَالُوتَ وَالْمُؤْمِنِينَ لَمَّا جَاوَزُوا النَّهْرَ وَرَأَوُا الْقَوْمَ تَخَلَّفُوا وَمَا جَاوَزُوهُ، سَأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ التَّخَلُّفِ فَذَكَرُوا ذَلِكَ، وَمَا كَانَ النَّهْرُ فِي الْعِظَمِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ مِنَ الْمُكَالَمَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُجَاوَزَةِ قُرْبَ حُصُولِ الْمُجَاوَزَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْإِشْكَالُ أَيْضًا زَائِلٌ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَبَرُوا النَّهْرَ كَانُوا فَرِيقَيْنِ: بَعْضُهُمْ مِمَّنْ يُحِبُّ الْحَيَاةَ وَيَكْرَهُ الْمَوْتَ وَكَانَ الْخَوْفُ وَالْجَزَعُ غَالِبًا عَلَى طَبْعِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ شُجَاعًا قَوِيَّ الْقَلْبِ لَا يُبَالِي بِالْمَوْتِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: هُمُ الَّذِينَ قَالُوا: لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: هُمُ الَّذِينَ أَجَابُوا بِقَوْلِهِمْ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا شَاهَدُوا قِلَّةَ عَسْكَرِهِمْ قَالُوا: / لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ نُوَطِّنَ أَنْفُسَنَا عَلَى الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْفِرَارِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي قَالُوا: لَا نُوَطِّنُ أَنْفُسَنَا بَلْ نَرْجُو مِنَ اللَّهِ الْفَتْحَ وَالظَّفَرَ، فَكَانَ غَرَضُ الْأَوَّلِينَ التَّرْغِيبَ فِي الشهادة والفوز
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute