لِدَاوُدَ، وَلَمَّا مَاتَ طَالُوتُ أَعْطَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُلْكَ لِدَاوُدَ، فَاجْتَمَعَ الْمُلْكُ وَالنُّبُوَّةُ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحِكْمَةُ هِيَ وَضْعُ الْأُمُورِ مَوَاضِعَهَا عَلَى الصَّوَابِ وَالصَّلَاحِ، وَكَمَالُ هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالنُّبُوَّةِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ هاهنا النُّبُوَّةَ، قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النِّسَاءِ: ٥٤] وَقَالَ فِيمَا بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٦] .
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْحِكْمَةِ النُّبُوَّةَ، فَلِمَ قَدَّمَ الْمُلْكَ عَلَى الْحِكْمَةِ؟ مَعَ أَنَّ الْمُلْكَ أَدْوَنُ حَالًا مِنَ النُّبُوَّةِ.
قُلْنَا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَيْفِيَّةَ تَرَقِّي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْمَرَاتِبِ الْعَالِيَةِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ الْمُتَكَلِّمُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّرَقِّي، فَكُلُّ مَا كَانَ أَكْثَرَ تَأَخُّرًا فِي الذِّكْرِ كَانَ أَعْلَى حَالًا وَأَعْظَمَ رُتْبَةً.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨٠] وَقَالَ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سَبَأٍ: ١٠، ١١] وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ كَلَامُ الطَّيْرِ وَالنَّمْلِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النَّمْلِ: ١٦] وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحَ الدُّنْيَا وَضَبْطِ الْمُلْكِ، فَإِنَّهُ مَا وَرِثَ الْمُلْكَ مِنْ آبَائِهِ، لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُلُوكًا بَلْ كَانُوا رُعَاةً وَرَابِعُهَا: عِلْمُ الدِّينِ، قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [النِّسَاءِ: ١٦٣] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ حَاكِمًا بَيْنَ النَّاسِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ وَخَامِسُهَا: الْأَلْحَانُ الطَّيِّبَةُ، وَلَا يَبْعُدُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ آتَاهُ الْحِكْمَةَ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ النُّبُوَّةَ، فَقَدْ دَخَلَ الْعِلْمُ فِي ذلك، فلم ذكر بعده عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ.
قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ قَطُّ لَا يَنْتَهِي إِلَى حَالَةٍ يَسْتَغْنِي عَنِ التَّعَلُّمِ، سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْفَسَادَ الْوَاقِعَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ زَالَ بِمَا كَانَ مِنْ طَالُوتَ وَجُنُودِهِ، وَبِمَا كَانَ مِنْ دَاوُدَ مِنْ قَتْلِ جَالُوتَ بَيَّنَ عَقِيبَ ذَلِكَ جُمْلَةً تَشْتَمِلُ كُلَّ تَفْصِيلٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَدْفَعُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِكَيْ لَا تَفْسُدَ الْأَرْضُ، فَقَالَ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ [الْحَجِّ: ٤٠] وقرءا جميعا إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: ٣٨] بِغَيْرِ أَلِفٍ وَوَافَقَهُمَا عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ الْيَحْصَبِيُّ عَلَى دَفْعِ اللَّهِ بِغَيْرِ أَلِفٍ إِلَّا أَنَّهُمْ قَرَءُوا إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْأَلِفِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَلَوْلَا دِفَاعُ الله وإِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ بِالْأَلِفِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَنَقُولُ: أَمَّا مَنْ قَرَأَ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ فَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَنْ