للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَرَأَ: وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا فَوَجْهُ الْإِشْكَالِ فِيهِ أَنَّ الْمُدَافَعَةَ مُفَاعَلَةٌ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُدَافِعِينَ دَافِعًا لِصَاحِبِهِ وَمَانِعًا لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، وَجَوَابُهُ أَنَّ لِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي لَفْظِ دِفَاعٍ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِدَفَعَ، تَقُولُ: دَفَعْتُهُ دَفْعًا وَدِفَاعًا، كَمَا تَقُولُ:

كتبته كتبا وكتابا، قالوا: وفعال كثيرا يَجِيءُ مَصْدَرًا لِلثُّلَاثِيِّ مِنْ فَعَلَ وَفَعِلَ، تَقُولُ: جَمَحَ جِمَاحًا، وَطَمَحَ طِمَاحًا، وَتَقُولُ: لَقِيتُهُ لِقَاءً، وَقُمْتُ قِيَامًا، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ كَانَ قَوْلُهُ: وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ مَعْنَاهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ جَعَلَ دِفَاعُ مِنْ دَافَعَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يَكُفُّ الظَّلَمَةَ وَالْعُصَاةَ عَنْ ظُلْمِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَيْدِي أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَأَئِمَّةِ دِينِهِ وَكَانَ يَقَعُ بَيْنَ أُولَئِكَ الْمُحِقِّينَ وَأُولَئِكَ الْمُبْطِلِينَ مُدَافَعَاتٌ وَمُكَافَحَاتٌ، فَحَسُنَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُدَافَعَةِ، كَمَا قَالَ: يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة: ٣٣] ، واقُّوا اللَّهَ

[الْأَنْفَالِ: ١٣] وَكَمَا قَالَ: قاتَلَهُمُ اللَّهُ [التَّوْبَةِ: ٣٠] وَنَظَائِرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَدْفُوعَ وَالْمَدْفُوعَ بِهِ، فَقَوْلُهُ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَدْفُوعِ، وَقَوْلُهُ: بِبَعْضٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَدْفُوعِ بِهِ، فَأَمَّا الْمَدْفُوعُ عَنْهُ فَغَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ الشُّرُورَ فِي الدِّينِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ الشُّرُورَ فِي الدُّنْيَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَهُمَا.

أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ الشُّرُورَ فِي الدِّينِ، فَتِلْكَ الشُّرُورُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَرْجِعُ بِهَا إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ إِلَى الْفِسْقِ، أَوْ إِلَيْهِمَا، فَلْنَذْكُرْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ.

الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بَعْضَ النَّاسِ عَنِ الْكُفْرِ بِسَبَبِ الْبَعْضِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالدَّافِعُونَ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَئِمَّةُ الْهُدَى فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ النَّاسَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْكُفْرِ بِإِظْهَارِ الدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ وَالْبَيِّنَاتِ قَالَ تَعَالَى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إِبْرَاهِيمَ: ١] .

وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بَعْضَ النَّاسِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ بِسَبَبِ الْبَعْضِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالدَّافِعُونَ هُمُ الْقَائِمُونَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى:

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٠] وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ: الْأَئِمَّةُ الْمَنْصُوبُونَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَجْلِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون: ٩٦] وفي موضع آخر: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [الرَّعْدِ: ٢٢] .

الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ بَعْضَ النَّاسِ عَنِ الْهَرْجِ وَالْمَرْجِ وَإِثَارَةِ الْفِتَنِ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ الْبَعْضِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّافِعِينَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، ثُمَّ الْأَئِمَّةُ وَالْمُلُوكُ الذَّابُّونَ عَنْ شَرَائِعِهِمْ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ الْوَاحِدَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعِيشَ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَخْبِزْ هَذَا لِذَاكَ وَلَا يَطْحَنُ ذَاكَ لِهَذَا، وَلَا يَبْنِي هَذَا لِذَاكَ، وَلَا يَنْسِجُ ذَاكَ لِهَذَا، لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ، وَلَا تَتِمُّ إِلَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِ جَمْعٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا قِيلَ: الْإِنْسَانُ مَدَّنِيٌّ بِالطَّبْعِ، ثُمَّ إِنَّ الِاجْتِمَاعَ بِسَبَبِ الْمُنَازَعَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْمُخَاصَمَةِ أَوَّلًا، وَالْمُقَاتَلَةِ ثَانِيًا، فَلَا بُدَّ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ وَضْعِ شَرِيعَةٍ بَيْنَ الْخَلْقِ، لِتَكُونَ الشَّرِيعَةُ قَاطِعَةً لِلْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ، فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الَّذِينَ أُوتُوا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِهَذِهِ الشَّرَائِعِ هُمُ الَّذِينَ دفع الله بسببهم وبسبب شريعهم الْآفَاتِ عَنِ الْخَلْقِ