وَاحِدٌ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى بَادِيَةٍ بعيدة ليس فيها أنس وَلَا صَدِيقٌ، وَبَلِّغْ إِلَى صَاحِبِ الْبَادِيَةِ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُوحِشَةِ لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِنْسَانِ، أَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يَذْهَبَ طُولَ لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ فِي كُلِّ عُمُرِهِ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الَّذِينَ لَا عَهْدَ لَهُ بِهِمْ، بَلِ الْمُعْتَادُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُعَادُونَهُ وَيُؤْذُونَهُ وَيَسْتَخِفُّونَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَمَلَّ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَمْ يَتَلَكَّأْ، بَلْ سَارَعَ إِلَيْهَا سَامِعًا مُطِيعًا، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَحَمَّلَ فِي إِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ أَعْظَمَ الْمَشَاقِّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ [الْحَدِيدِ: ١٠] وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْبَلَاءَ كَانَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا عَظُمَ فَضْلُ الصَّحَابَةِ بِسَبَبِ تِلْكَ الشِّدَّةِ فَمَا ظَنُّكَ بِالرَّسُولِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَشَقَّتَهُ أَعْظَمُ مِنْ مَشَقَّةِ غَيْرِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَضْلُهُ أَكْثَرَ مِنْ فَضْلِ غَيْرِهِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحَمَزُهَا» .
الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ الْأَدْيَانِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ، بَيَانُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْإِسْلَامَ نَاسِخًا لِسَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَالنَّاسِخُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
فَلَمَّا كَانَ هَذَا الدِّينُ أَفْضَلَ وَأَكْثَرَ ثَوَابًا، كَانَ وَاضِعُهُ أَكْثَرَ ثَوَابًا مِنْ وَاضِعِي سَائِرِ الْأَدْيَانِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.
الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْأُمَمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ، بَيَانُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٠] بَيَانُ الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ إِنَّمَا/ نَالَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ لِمُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: ٣١] وَفَضِيلَةُ التَّابِعِ تُوجِبُ فَضِيلَةَ الْمَتْبُوعِ، وَأَيْضًا إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ ثَوَابًا لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ، لِأَنَّ لِكَثْرَةِ الْمُسْتَجِيبِينَ أَثَرًا فِي عُلُوِّ شَأْنِ الْمَتْبُوعِ.
الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاتَمُ الرُّسُلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ، لِأَنَّ نَسْخَ الْفَاضِلِ بِالْمَفْضُولِ قَبِيحٌ فِي الْمَعْقُولِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَعْضٍ يَكُونُ لِأُمُورٍ مِنْهَا: كَثْرَةُ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي هِيَ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِهِمْ وَمُوجِبَةٌ لِتَشْرِيفِهِمْ، وَقَدْ حَصَلَ فِي حَقِّ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَفْضُلُ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَهِيَ بِالْجُمْلَةِ عَلَى أَقْسَامٍ، مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُدْرَةِ، كَإِشْبَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ، وَإِرْوَائِهِمْ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُلُومِ كَالْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ، وَفَصَاحَةِ الْقُرْآنِ، وَمِنْهَا اخْتِصَاصُهُ فِي ذَاتِهِ بِالْفَضَائِلِ، نَحْوُ كَوْنِهِ أَشْرَفَ نَسَبًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، وَأَيْضًا كَانَ فِي غَايَةِ الشَّجَاعَةِ، كَمَا
رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ مُحَارَبَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعَمْرِو بْنِ وُدٍّ: كَيْفَ وَجَدْتَ نَفْسَكَ يَا عَلِيُّ، قَالَ: وَجَدْتُهَا لَوْ كَانَ كُلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي جَانِبٍ وَأَنَا فِي جَانِبٍ لَقَدَرْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: تَأَهَّبْ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْوَادِي فَتًى يُقَاتِلُكَ، الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ
وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَمِنْهَا فِي خُلُقِهِ وَحِلْمِهِ وَوَفَائِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَسَخَائِهِ، وَكُتُبُ الْحَدِيثِ نَاطِقَةٌ بِتَفْصِيلِ هَذِهِ الْأَبْوَابِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ وَمِنْ كُلِّ أَوْلَادِهِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ»
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ مِنَ النَّبِيِّينَ حَتَّى أَدْخُلَهَا أَنَا، وَلَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتِي»
وَرَوَى أنس قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا، لِوَاءُ الْحَمْدِ بِيَدِي، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى