للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثَهُ فَالْمَعْنَى: ثُمَّ أَحْيَاهُ، وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يُسَمَّى يَوْمَ الْبَعْثِ لِأَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَأَصْلُهُ مِنْ بَعَثْتُ النَّاقَةَ إِذَا أَقَمْتُهَا مِنْ مَكَانِهَا، وَإِنَّمَا قَالَ ثُمَّ بَعَثَهُ وَلَمْ يَقُلْ: ثُمَّ أَحْيَاهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ بَعَثَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَادَ كَمَا كَانَ أَوَّلًا حَيًّا عَاقِلًا فَهِمًا مُسْتَعِدًّا لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَوْ قَالَ: ثُمَّ أَحْيَاهُ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْفَوَائِدُ.

/ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ كَمْ لَبِثْتَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْإِدْغَامِ وَالْبَاقُونَ بِالْإِظْهَارِ، فَمَنْ أَدْغَمَ فَلِقُرْبِ الْمَخْرَجَيْنِ وَمَنْ أَظْهَرَ فَلِتَبَايُنِ الْمَخْرَجَيْنِ وَإِنْ كَانَا قَرِيبَيْنِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا عُرِفَ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ ذَلِكَ الْخِطَابَ كَانَ مَقْرُونًا بِالْمُعْجِزِ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ شَاهَدَ مِنْ أَحْوَالِ حِمَارِهِ وَظُهُورِ الْبِلَى فِي عِظَامِهِ مَا عَرَفَ بِهِ أَنَّ تِلْكَ الْخَوَارِقَ لَمْ تَصْدُرْ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا وَكَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُمْكِنُهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ حَيًّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مُدَّةَ مَوْتِهِ كَانَتْ طَوِيلَةً أَمْ قَصِيرَةً، فَمَعَ ذَلِكَ لِأَيِّ حِكْمَةٍ سَأَلَهُ عَنْ مِقْدَارِ تِلْكَ الْمُدَّةِ.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ التَّنْبِيهُ عَلَى حُدُوثِ مَا حَدَثَ مِنَ الْخَوَارِقِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ ذَكَرَ هَذَا التَّرْدِيدَ؟.

الْجَوَابُ: أَنَّ الْمَيِّتَ طَالَتْ مُدَّةُ مَوْتِهِ أَوْ قَصُرَتْ فَالْحَالُ وَاحِدَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فَأَجَابَ بِأَقَلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَفِي التَّفْسِيرِ أَنَّ إِمَاتَتَهُ كَانَتْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَقَالَ يَوْماً ثُمَّ لَمَّا نَظَرَ إِلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ بَاقِيًا على رؤوس الْجُدْرَانِ فَقَالَ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ اللُّبْثُ مِائَةَ عَامٍ، ثُمَّ قَالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَلَيْسَ هَذَا يَكُونُ كَذِبًا؟.

وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الظَّنِّ، وَلَا يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِهَذَا الْكَذِبِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الْكَهْفِ: ١٩] عَلَى مَا تَوَهَّمُوهُ وَوَقَعَ عِنْدَهُمْ، وأيضا قال أخوة يوسف عليه السلام: يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا [يُوسُفَ: ٨١] وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْأَمَارَةِ مِنْ إِخْرَاجِ الصُّوَاعِ مِنْ رَحْلِهِ.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ كَانَ بِسَبَبِ الْمَوْتِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ بَلْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ بِسَبَبِ الْمَوْتِ.

الْجَوَابُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ كَانَ بِسَبَبِ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَصْلِيَّ فِي إِمَاتَتِهِ ثُمَّ إِحْيَائِهِ بَعْدَ مِائَةِ عَامٍ أَنْ يُشَاهِدَ الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ كَانَ بِسَبَبِ الْمَوْتِ، وَهُوَ أَيْضًا قَدْ شَاهَدَ إِمَّا فِي نَفْسِهِ، أَوْ فِي حِمَارِهِ أَحْوَالًا دَالَّةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ كَانَ بِسَبَبِ الموت.