أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ، وَقِيلَ: الْعَامُ أَصْلُهُ مِنَ الْعَوْمِ الَّذِي هُوَ السِّبَاحَةُ، لِأَنَّ فِيهِ سَبْحًا طَوِيلًا لَا يُمْكِّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي إِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَتَسَنَّهْ واقْتَدِهْ ومالِيَهْ وسُلْطانِيَهْ وما هِيَهْ بَعْدَ أَنِ اتَّفَقُوا عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ، فَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ هَذِهِ الْحُرُوفَ كُلَّهَا بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ، وَكَانَ حَمْزَةُ يَحْذِفُهُنَّ فِي الْوَصْلِ وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَحْذِفُ الْهَاءَ فِي الْوَصْلِ مِنْ قوله لَمْ يَتَسَنَّهْ واقْتَدِهْ وَيُثْبِتُهَا فِي الْوَصْلِ فِي الْبَاقِي وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قَوْلِهِ لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ [الْحَاقَّةِ: ٢٥، ٢٦] أَنَّهَا بِالْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا الْحَذْفُ ففيه وجوه أحدهما: أن اشتقاق قوله يَتَسَنَّهْ من السنة وزعم كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ أَصْلَ السَّنَةِ سَنَوَةٌ، قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الِاشْتِقَاقِ مِنْهَا أَسَنَّتِ الْقَوْمَ إِذَا أَصَابَتْهُمِ السَّنَةُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَرِجَالُ مَكَّةَ مِسْنِتُونَ عِجَافُ وَيَقُولُونَ فِي جَمْعِهَا: سَنَوَاتٌ وَفِي الْفِعْلِ مِنْهَا: سَانَيْتُ الرَّجُلَ مُسَانَاةً إِذَا عَامَلَهُ سَنَةً سَنَةً، وَفِي التَّصْغِيرِ:
سُنَيَّةٌ إِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ لَمْ يَتَسَنَّهْ لِلسَّكْتِ لَا لِلْأَصْلِ وَثَانِيهَا: نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ:
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَصْلُ سَنَةٍ سَنَنَةً، لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي تَصْغِيرِهَا: سُنَيْنَةٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَلِيلًا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أَصْلُهُ لَمْ يَتَسَنَّنْ، ثُمَّ أُسْقِطَتِ النُّونُ الْأَخِيرَةُ ثم أدخل عليها هاء السكت عن الْوَقْفِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ أَصْلَ لَمْ يَتَقَضَّ الْبَازِيُّ لَمْ يَتَقَضَّضِ الْبَازِيُّ ثُمَّ أُسْقِطَتِ الضَّادُ الْأَخِيرَةُ، ثُمَّ أُدْخِلَ عَلَيْهِ هَاءُ السَّكْتِ عِنْدَ الْوَقْفِ، فَيُقَالُ: لَمْ يَتَقَضَّهْ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ لَمْ يَتَسَنَّهْ مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الْحِجْرِ: ٢٦] وَالسِّنُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الصَّبُّ، هَكَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، فَقَوْلُهُ: لَمْ يَتَسَنَّنْ. أَيِ الشَّرَابُ بَقِيَ بِحَالِهِ لَمْ يَنْضُبْ، وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِ مِائَةُ عَامٍ، ثُمَّ أنه حذفت النون الأخيرة وأبدلت بها السَّكْتِ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ لِبَيَانِ الْحَذْفِ، وَأَمَّا بَيَانُ الْإِثْبَاتِ فَهُوَ أَنَّ لَمْ يَتَسَنَّهْ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّنَةِ، وَالسَّنَةُ أَصْلُهَا سَنْهَةٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ فِي تَصْغِيرِهَا: سُنَيْهَةٌ، وَيُقَالُ: سَانَهَتِ النَّخْلَةُ بِمَعْنَى عَاوَمَتْ، وَآجَرْتُ الدَّارَ مُسَانَهَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْهَاءُ فِي لَمْ يَتَسَنَّهْ لَامُ الْفِعْلِ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يُحْذَفِ الْبَتَّةَ لَا عِنْدَ الْوَصْلِ وَلَا عِنْدَ الْوَقْفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَتَسَنَّهْ أَيْ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَأَصْلُ مَعْنَى لَمْ يَتَسَنَّهْ أَيْ لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ السُّنُونَ لِأَنَّ مَرَّ السِّنِينَ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَكَأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ، وَنَقَلْنَا عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: لَمْ يَتَسَنَّنْ أَيْ لَمْ يَنْضُبِ الشَّرَابُ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
/ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَقَوْلُهُ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَبِثَ مِائَةَ عَامٍ بَلْ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَبِثَ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute