للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ

[الزُّمَرِ: ٣] أَيْ قَالُوا هَذَا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو يُفْرَقُ بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لِكُلٍّ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يُفَرِّقُونَ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَحَدٍ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الْحَاقَّةِ: ٤٧] وَالتَّقْدِيرُ: / لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ جَمِيعِ رُسُلِهِ، هَذَا هُوَ الَّذِي قَالُوهُ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لا يجوز أن يكون أحد هاهنا فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُمْ مُفَرِّقِينَ بَيْنَ بَعْضِ الرُّسُلِ وَالْمَقْصُودُ بِالنَّفْيِ هُوَ هَذَا، لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَا كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ كُلِّ الرُّسُلِ، بَلْ بَيْنَ الْبَعْضِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ بَاطِلٌ، بَلْ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ، وبين غيره في النبوّة، فإذا فسرنا بِهَذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكَلَامُ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ كَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَاسْتِكْمَالُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِالْعِلْمِ، وَاسْتِكْمَالُ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ بِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَالْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ أَشْرَفُ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذِكْرِهِمَا بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ مُقَدَّمَةً عَلَى الْعَمَلِيَّةِ قَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٨٣] فَالْحُكْمُ كَمَالُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ كَمَالُ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَقَدْ أَطْنَبْنَا فِي شَوَاهِدَ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْقُرْآنِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَقَوْلُهُ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِهَذِهِ الْمَعَارِفِ الشَّرِيفَةِ وَقَوْلُهُ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ الْكَامِلَةِ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ عَلِمَ اشْتِمَالَ الْقُرْآنِ عَلَى أَسْرَارٍ عَجِيبَةٍ غَفَلَ عَنْهَا الْأَكْثَرُونَ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ النَّظْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَيَّامًا ثَلَاثَةً: الْأَمْسُ وَالْبَحْثُ عَنْهُ يُسَمَّى بِمَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَالْيَوْمُ الْحَاضِرُ، وَالْبَحْثُ عَنْهُ يُسَمَّى بِعِلْمِ الْوَسَطِ، وَالْغَدُ وَالْبَحْثُ عَنْهُ يُسَمَّى بِعِلْمِ الْمَعَادِ وَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى رِعَايَةِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ هُودٍ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هُودٍ:

١٢٣] وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَلَمَّا كَانَتِ الْكَمَالَاتُ الْحَقِيقِيَّةُ لَيْسَتْ إِلَّا الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ، لَا جَرَمَ ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلُهُ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، وَقَوْلُهُ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى عِلْمِ الْمَبْدَأِ، وَأَمَّا عِلْمُ الْوَسَطِ وَهُوَ عِلْمُ مَا يَجِبُ الْيَوْمَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ، فَلَهُ أَيْضًا مَرْتَبَتَانِ: الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ أَمَّا الْبِدَايَةُ فَالِاشْتِغَالُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَمَّا النِّهَايَةُ فَقَطْعُ النَّظَرِ عَنِ الْأَسْبَابِ، وَتَفْوِيضُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّوَكُّلِ، فَذَكَرَ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ، فَقَالَ: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هُودٍ: ١٢٣] وَأَمَّا عِلْمُ الْمَعَادِ فَهُوَ قَوْلُهُ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَامِ: ١٣٢] أَيْ فَيَوْمُكَ غَدًا سَيَصِلُ فِيهِ نَتَائِجُ أَعْمَالِكَ إِلَيْكَ، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كَمَالِ مَا يَبْحَثُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ، وَنَظِيرُهَا أَيْضًا قَوْلُهُ/ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصَّافَّاتِ: ١٨٠] وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى