للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ النَّبِيِّينَ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَايَبَةِ ثُمَّ قَالَ: آتَيْتُكُمْ وَهُوَ مُخَاطَبَةُ إِضْمَارٍ وَالتَّقْدِيرُ:

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ فَقَالَ مُخَاطِبًا لَهُمْ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، وَالْإِضْمَارُ بَابٌ وَاسِعٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنِ الْتَزَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِضْمَارًا آخَرَ وَأَرَاحَ نَفْسَهُ عَنْ تِلْكَ التَّكَلُّفَاتِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا عَنِ النَّحْوِيِّينَ فَقَالَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَتُبَلِّغُنَّ النَّاسَ مَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، قَالَ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ لَتُبَلِّغُنَّ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّ لَامَ الْقَسَمِ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْفِعْلِ فَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ اللَّامُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ لَا جَرَمَ حَذَفَهُ اخْتِصَارًا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْتَقِيمُ النَّظْمُ وَلَا يَحْتَاجُ إلى تكليف تِلْكَ التَّعَسُّفَاتِ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنِ الْتِزَامِ الْإِضْمَارِ فَهَذَا الْإِضْمَارُ الَّذِي بِهِ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ نَظْمًا بَيِّنًا جَلِيًّا أَوْلَى مِنْ تِلْكَ التَّكَلُّفَاتِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ مَعَ الْأُمَمِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ مَا أُوتُوا الْكِتَابَ، وَإِنَّمَا أُوتِيَ بَعْضُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْأُمَمِ، فَالْإِشْكَالُ أَظْهَرُ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أُوتُوا الْكِتَابَ، بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُهْتَدِيًا بِهِ دَاعِيًا إِلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: أَنَّ أَشْرَفَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ هُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، فَوَصَفَ الْكُلَّ بِوَصْفِ أَشْرَفِ الْأَنْوَاعِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْكِتَابُ هُوَ الْمُنَزَّلُ الْمَقْرُوءُ وَالْحِكْمَةُ هِيَ الْوَحْيُ الْوَارِدُ بِالتَّكَالِيفِ الْمُفَصَّلَةِ الَّتِي لَمْ يَشْتَمِلِ الْكِتَابُ عَلَيْهَا.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: كَلِمَةُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ كِتابٍ دَخَلَتْ تَبْيِينًا لِمَا كَقَوْلِكَ: مَا عِنْدِي مِنَ الْوَرَقِ دَانِقَانِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا وَجْهُ قَوْلِهِ ثُمَّ جاءَكُمْ وَالرَّسُولُ لَا يَجِيءُ إِلَى النَّبِيِّينَ وَإِنَّمَا يَجِيءُ إِلَى الْأُمَمِ؟.

وَالْجَوَابُ: إِنْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى أَخْذِ مِيثَاقِ أُمَمِهِمْ فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَخْذِ مِيثَاقِ النَّبِيِّينَ أَنْفُسِهِمْ كَانَ قَوْلُهُ ثُمَّ جاءَكُمْ أَيْ جَاءَ فِي زَمَانِكُمْ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ يَكُونُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ مَعَ مُخَالَفَةِ شَرْعِهِ لِشَرْعِهِمْ، قُلْنَا: الْمُرَادُ بِهِ حُصُولُ الْمُوَافَقَةِ فِي التَّوْحِيدِ، وَالنُّبُوَّاتِ، وَأُصُولِ الشَّرَائِعِ، فَأَمَّا تَفَاصِيلُهَا وَإِنْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا فَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِخِلَافٍ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ إِلَّا شَرْعَهُ وَأَنَّ الْحَقَّ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ إِلَّا شَرْعَهُ، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ يُوهِمُ الْخِلَافَ، إِلَّا أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وِفَاقٌ، وَأَيْضًا فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ هُوَ أَنَّ وَصْفَهُ وَكَيْفِيَّةَ أَحْوَالِهِ مَذْكُورَةٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَحْوَالٍ مُطَابِقَةٍ لِمَا كَانَ مَذْكُورًا فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، كَانَ نَفْسُ مَجِيئِهِ تَصْدِيقًا لِمَا كَانَ مَعَهُمْ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِكُلِّ رَسُولٍ يَجِيءُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ الْمِيثَاقِ.