وَالْجَوَابُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمِيثَاقُ مَا قُرِّرَ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الِانْقِيَادَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَاجِبٌ، فَإِذَا جَاءَ الرَّسُولُ فَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ رَسُولًا عِنْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فَإِذَا أَخْبَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْخَلْقَ بِالْإِيمَانِ بِهِ عَرَفُوا عِنْدَ ذَلِكَ وَجُوبَهَ، فَتَقْدِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ فِي عُقُولِهِمْ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ أَخْذِ الْمِيثَاقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ أَخْذِ الْمِيثَاقِ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَحَ صِفَاتِهِ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَإِذَا صَارَتْ أَحْوَالُهُ مُطَابِقَةً لِمَا جَاءَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَجَبَ الِانْقِيَادُ لَهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ يَدُلُّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَقَوْلُهُ رَسُولٌ وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، فَقَوْلُهُ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ فَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الْإِيمَانَ بِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ/ الِاشْتِغَالَ بِنُصْرَتِهِ ثَانِيًا، وَاللَّامُ فِي لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ لَامُ الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَاللَّهِ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنْ فَسَّرْنَا قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ الْمَوَاثِيقَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى أَأَقْرَرْتُمْ مَعْنَاهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلنَّبِيِّينَ أَأَقْرَرْتُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالنُّصْرَةِ لَهُ وَإِنْ فَسَّرْنَا أَخْذَ الْمِيثَاقِ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَذُوا الْمَوَاثِيقَ عَلَى الْأُمَمِ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ أَيْ قَالَ كُلُّ نَبِيٍّ لِأُمَّتِهِ أَأَقْرَرْتُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ أَخْذَ الْمِيثَاقِ إِلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّونَ أَخَذُوهُ عَلَى الْأُمَمِ، فَكَذَلِكَ طَلَبُ هَذَا الْإِقْرَارِ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ وَإِنْ وَقَعَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بَالَغُوا فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَعْنَى وَتَأْكِيدِهِ، فَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَى الْأُمَمِ، بَلْ طَالَبُوهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَوْلِ، وَأَكَّدُوا ذَلِكَ بِالْإِشْهَادِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِقْرَارُ فِي اللُّغَةِ مَنْقُولٌ بِالْأَلِفِ مِنْ قَرَّ الشَّيْءُ يَقِرُّ، إِذَا ثَبَتَ وَلَزِمَ مَكَانَهُ وَأَقَرَّهُ غَيْرُهُ وَالْمُقِرُّ بِالشَّيْءِ يُقِرُّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَيْ يُثْبِتُهُ.
أما قوله تعالى: وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أَيْ قَبِلْتُمْ عَهْدِي، وَالْأَخْذُ بِمَعْنَى الْقَبُولِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ قَالَ تَعَالَى: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ [الْبَقَرَةِ: ٤٨] أَيْ يُقْبَلُ مِنْهَا فِدْيَةٌ وَقَالَ: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [التَّوْبَةِ: ١٠٤] أَيْ يَقْبَلُهَا وَالْإِصْرُ هُوَ الَّذِي يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ لِأَجْلِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ عَمَلٍ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] فَسَمَّى الْعَهْدَ إِصْرًا لِهَذَا الْمَعْنَى، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : سُمِّيَ الْعَهْدُ إِصْرًا لِأَنَّهُ مِمَّا يُؤْصَرُ أَيْ يُشَدُّ وَيُعْقَدُ، وَمِنْهُ الْإِصَارُ الَّذِي يُعْقَدُ بِهِ وَقُرِئَ إِصْرِي وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لُغَةً فِي إِصْرٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ فَاشْهَدُوا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: فَلْيَشْهَدْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْإِقْرَارِ، وَأَنَا عَلَى إِقْرَارِكُمْ وَإِشْهَادِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا مِنَ الشَّاهِدِينَ وَهَذَا تَوْكِيدٌ عَلَيْهِمْ وَتَحْذِيرٌ مِنَ الرُّجُوعِ إِذَا عَلِمُوا شَهَادَةَ اللَّهِ وَشَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ فَاشْهَدُوا خِطَابٌ لِلْمَلَائِكَةِ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ فَاشْهَدُوا أَيْ لِيَجْعَلْ كُلُّ أَحَدٍ نَفْسَهُ شَاهِدًا عَلَى نَفْسِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] عَلَى أَنْفُسِنَا وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ الرَّابِعُ: فَاشْهَدُوا أَيْ بَيِّنُوا هَذَا الْمِيثَاقَ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ، لِكَيْ لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ عُذْرٌ فِي الْجَهْلِ بِهِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute