للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تَعَالَى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيمِ: ٤]

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ»

وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَّمَ الثَّلَاثَةَ فَقَالَ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَأَنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجَّهُ، ثُمَّ حَذَفَ (أَنْ) اخْتِصَارًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [الْأَعْرَافِ: ٢٩] أَيْ أَمَرَ رَبِّي بِأَنْ تُقْسِطُوا الرَّابِعُ: يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ هَاتَانِ الْآيَتَانِ وَيُطْوَى ذِكْرُ غَيْرِهِمَا دَلَالَةً عَلَى تَكَاثُرِ الْآيَاتِ، كَأَنَّهُ قِيلَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمْنُ مَنْ دَخَلَهَ، وَكَثِيرٌ سِوَاهُمَا الْخَامِسُ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ آيَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ السَّادِسُ: قَالَ الْمُبَرِّدُ مَقامُ مَصْدَرٌ فَلَمْ يُجْمَعْ كَمَا قال: وَعَلى سَمْعِهِمْ وَالْمُرَادُ مَقَامَاتُ إِبْرَاهِيمَ، وَهِيَ مَا أَقَامَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أُمُورِ الْحَجِّ وَأَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَثِيرَةٌ وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ شَعَائِرُ الْحَجِّ كَمَا قَالَ: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ [الْحَجِّ: ٣٢] .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَقامُ إِبْراهِيمَ وَفِيهِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَعَ بُنْيَانُ الْكَعْبَةِ، وَضَعُفَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ رَفْعِ الْحِجَارَةِ قَامَ عَلَى هَذَا الْحَجَرِ فَغَاصَتْ فِيهِ قَدَمَاهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَاءَ زَائِرًا مِنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَ قَدْ حَلَفَ لِامْرَأَتِهِ أَنْ لَا يَنْزِلَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَرْجِعَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَكَّةَ قَالَتْ لَهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ: انْزِلْ حَتَّى نَغْسِلَ رَأْسَكَ، فَلَمْ يَنْزِلْ، فَجَاءَتْهُ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَتْهُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، فَوَضَعَ قَدَمَهُ عَلَيْهِ حَتَّى غَسَلَتْ أَحَدَ جَانِبَيْ رَأْسِهِ، ثُمَّ حَوَّلَتْهُ إِلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، حَتَّى غَسَلَتِ الْجَانِبَ الْآخَرَ، فَبَقِيَ أَثَرُ قَدَمَيْهِ عَلَيْهِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي قَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَذَانِ بِالْحَجِّ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ قَامَ عَلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِهَذِهِ الْآيَةِ نَظَائِرُ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ/ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [الْبَقَرَةِ: ١٢٥] وَقَوْلُهُ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٧] وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً [إبراهيم: ٣٥] وقال تعالى: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قُرَيْشٍ: ٤] قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَمَّا كَانَتِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ عَقِيبَ قَوْلِهِ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ مَوْجُودَةً فِي الْحَرَمِ ثُمَّ قَالَ:

وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ جَمِيعَ الْحَرَمِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَرَمَ لَا يُفِيدُ الْأَمَانَ فِيمَا سِوَى النَّفْسِ، إِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ خَارِجَ الْحَرَمِ فَالْتَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ فَهَلْ يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْقِصَاصُ فِي الْحَرَمِ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْتَوْفَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُسْتَوْفَى، بَلْ يُمْنَعُ مِنْهُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْكَلَامُ حَتَّى يَخْرُجَ، ثُمَّ يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْقِصَاصُ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِهِ آمِنًا، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ إِذْ قَدْ لَا يَصِيرُ آمِنًا فَيَقَعُ الْخُلْفُ فِي الْخَبَرِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَمْرِ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْجِنَايَاتِ الَّتِي دُونَ النَّفْسِ، لِأَنَّ الضَّرَرَ فِيهَا أَخَفُّ مِنَ الضَّرَرِ فِي الْقَتْلِ، وَفِيمَا إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِجِنَايَةٍ أَتَى بِهَا فِي الْحَرَمِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي هَتَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ، فَيَبْقَى فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْآيَةِ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ كانَ آمِناً إِثْبَاتٌ لِمُسَمَّى الْأَمْنِ، وَيَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ إِثْبَاتُ الْأَمْنِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ لِلنُّسُكِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ آمِنًا مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،

قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنًا» وَقَالَ أَيْضًا: «مَنْ صَبَرَ عَلَى