للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حَرِّ مَكَّةَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ تَبَاعَدَتْ عَنْهُ جَهَنَّمُ مَسِيرَةَ مِائَتَيْ عَامٍ» وَقَالَ: «مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»

وَالثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى كُلِّ مَنِ الْتَجَأَ إِلَيْهِ وَدَفَعَ الْمَكْرُوهَ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ وَاقِعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْأَكْثَرِ أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُطْلَقًا وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالُوهُ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا نَجْعَلُ الْخَبَرَ قَائِمًا مَقَامَ الْأَمْرِ وَهُمْ جَعَلُوهُ قَائِمًا مَقَامَ الْأَمْرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِبَيَانِ فَضِيلَةِ الْبَيْتِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِشَيْءٍ كَانَ مَعْلُومًا لِلْقَوْمِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى فَضِيلَةِ الْبَيْتِ، فَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي إِثْبَاتِ فَضِيلَةِ الْكَعْبَةِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَعْنَى مَنْ دَخَلَهُ عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ آمِنًا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الْفَتْحِ: ٢٧] الرَّابِعُ: قَالَ الضَّحَّاكُ: مَنْ حَجَّ حَجَّةً كَانَ آمِنًا مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي اكْتَسَبَهَا قَبْلَ ذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ طُرُقَ الْكَلَامِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ كانَ آمِناً حُكْمٌ/ بِثُبُوتِ الْأَمْنِ وَذَلِكَ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ إِثْبَاتُ الْأَمْنِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَفِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَدْ عَمِلْنَا بِمُقْتَضَى هَذَا النَّصِّ فَلَا يَبْقَى لِلنَّصِّ دَلَالَةٌ عَلَى مَا قَالُوهُ، ثُمَّ يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِأَنَّ حَمْلَ النَّصِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُفْضِي إِلَى تَخْصِيصِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَحَمْلُهُ عَلَى مَا قَالُوهُ يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ فكان قولنا أولى والله أعلم.

قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فَضَائِلَ الْبَيْتِ وَمَنَاقِبَهُ، أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ إِيجَابِ الْحَجِّ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ حِجُّ الْبَيْتِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، قِيلَ الْفَتْحُ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْكَسْرُ لُغَةُ نَجْدٍ وَهُمَا وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، وَقِيلَ هُمَا جَائِزَانِ مُطْلَقًا فِي اللُّغَةِ، مِثْلُ رَطْلٍ وَرِطْلٍ، وَبَزْرٍ وَبِزْرٍ، وَقِيلَ الْمَكْسُورَةُ اسْمٌ لِلْعَمَلِ وَالْمَفْتُوحَةُ مَصْدَرٌ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَكْسُورَةُ أَيْضًا مَصْدَرًا، كَالذِّكْرِ وَالْعِلْمِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ (مَنْ) خَفْضٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ (النَّاسِ) وَالْمَعْنَى: وَلِلَّهِ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ مِنَ النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ إِنْ نَوَيْتَ الِاسْتِئْنَافَ بِمَنْ كَانَتْ شَرْطًا وَأُسْقِطَ الْجَزَاءُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَى الْحَجِّ سَبِيلًا فَلِلَّهِ عَلَيْهِ حَجُّ الْبَيْتِ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (مَنْ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى مَعْنَى التَّرْجَمَةِ لِلنَّاسِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنِ النَّاسُ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ لِلَّهِ حَجُّ الْبَيْتِ؟ فَقِيلَ هُمْ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ شَرْطَانِ لِحُصُولِ الِاسْتِطَاعَةِ،

رَوَى جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ اسْتِطَاعَةَ السَّبِيلِ إِلَى الْحَجِّ بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ،

وَرَوَى الْقَفَّالُ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ شَابًّا صَحِيحًا لَيْسَ لَهُ مَالٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَكَلَّفَ اللَّهُ النَّاسَ أَنْ يَمْشُوا إِلَى الْبَيْتِ؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ لِبَعْضِهِمْ مِيرَاثٌ بِمَكَّةَ أَكَانَ يَتْرُكُهُ؟ قَالَ: لَا بَلْ يَنْطَلِقُ إِلَيْهِ وَلَوْ