وَهُمَا لُغَتَانِ: كَالْجُهْدِ وَالْجَهْدِ، وَالْوُجْدِ وَالْوَجْدِ، وَالضُّعْفِ وَالضَّعْفِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَتْحَ لُغَةُ تِهَامَةَ وَالْحِجَازِ وَالضَّمَّ لُغَةُ نَجْدٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ وَبِالضَّمِّ اسْمٌ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ الْجِرَاحَةُ بِعَيْنِهَا وَبِالضَّمِّ أَلَمُ الْجِرَاحَةِ. وَالْخَامِسُ: قَالَ ابْنُ مِقْسَمٍ: هُمَا لُغَتَانِ إِلَّا أَنَّ الْمَفْتُوحَةَ تُوِهِمُ أَنَّهَا جَمْعُ قُرْحَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ مَسَّهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٥] وَالثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ نَالَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِثْلُ ما نالكم من الجرح وَالْقَتْلِ، لِأَنَّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، وَقُتِلَ صَاحِبُ لِوَائِهِمْ وَالْجِرَاحَاتُ كَثُرَتْ فِيهِمْ وَعُقِرَ عَامَّةُ خَيْلِهِمْ بِالنَّبْلِ، وَقَدْ كَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَيْهِمْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ.
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ: قَرْحٌ مِثْلُهُ وَمَا كَانَ قَرْحُهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِثْلَ قَرْحِ الْمُشْرِكِينَ؟
قُلْنَا: يَجِبُ أَنَّ يُفَسَّرَ الْقَرْحُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ بِمُجَرَّدِ الِانْهِزَامِ لَا بِكَثْرَةِ الْقَتْلَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تِلْكَ مبتدأ والْأَيَّامُ صفة ونُداوِلُها خَبَرُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: تِلْكَ الْأَيَّامُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ كَمَا تَقُولُ: هِيَ الْأَيَّامُ تُبْلِي كُلَّ جديد، فقوله: تِلْكَ الْأَيَّامُ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ أَيَّامِ الْوَقَائِعِ الْعَجِيبَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّهَا دُوَلٌ تَكُونُ عَلَى الرَّجُلِ حِينًا وَلَهُ حِينًا وَالْحَرْبُ سِجَالٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: الْمُدَاوَلَةُ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ، يُقَالُ: تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي إِذَا تَنَاقَلَتْهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ [الْحَشْرِ: ٧] أَيْ تَتَدَاوَلُونَهَا وَلَا تَجْعَلُونَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهَا نَصِيبًا، وَيُقَالُ: الدُّنْيَا دُوَلٌ، أَيْ تَنْتَقِلُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى آخَرِينَ، ثُمَّ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَيُقَالُ: دَالَ لَهُ الدَّهْرُ بِكَذَا إِذَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَيَّامَ الدُّنْيَا هِيَ دُوَلٌ بَيْنَ النَّاسِ لَا يَدُومُ مَسَارُّهَا وَلَا مَضَارُّهَا، فَيَوْمٌ يَحْصُلُ فِيهِ السُّرُورُ لَهُ وَالْغَمُّ لِعَدُوِّهِ، وَيَوْمٌ آخَرُ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِهَا وَلَا يَسْتَقِرُّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَارَةً يَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأُخْرَى يَنْصُرُ الْكَافِرِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ مَنْصِبٌ شَرِيفٌ وَإِعْزَازٌ عَظِيمٌ، فَلَا يَلِيقُ بِالْكَافِرِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ أَنَّهُ تَارَةً يُشَدِّدُ الْمِحْنَةَ عَلَى الْكُفَّارِ وَأُخْرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْفَائِدَةُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَدَّدَ الْمِحْنَةَ عَلَى الْكُفَّارِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَأَزَالَهَا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ الِاضْطِرَارِيُّ بِأَنَّ الْإِيمَانَ حَقٌّ وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ التَّكْلِيفُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فَلِهَذَا الْمَعْنَى تَارَةً يُسَلِّطُ اللَّهُ الْمِحْنَةَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَأُخْرَى عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ لِتَكُونَ الشُّبَهَاتُ بَاقِيَةً وَالْمُكَلَّفُ يَدْفَعُهَا بِوَاسِطَةِ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْإِسْلَامِ فَيَعْظُمُ ثَوَابُهُ عِنْدَ اللَّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يُقْدِمُ عَلَى بَعْضِ الْمَعَاصِي، فَيَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ تَشْدِيدُ الْمِحْنَةِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَدَبًا لَهُ وَأَمَّا تَشْدِيدُ الْمِحْنَةِ عَلَى الْكَافِرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَضَبًا مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَآلَامَهَا غَيْرُ بَاقِيَةٍ وَأَحْوَالُهَا غَيْرُ مُسْتَمِرَّةٍ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ السَّعَادَاتُ الْمُسْتَمِرَّةُ فِي دَارِ الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُمِيتُ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ، وَيُسْقِمُ بَعْدَ الصِّحَّةِ، فَإِذَا حَسُنَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُبَدِّلَ السَّرَّاءَ بِالضَّرَّاءِ، وَالْقُدْرَةَ بِالْعَجْزِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ صَعِدَ الْجَبَلَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ أَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ أَيْنَ ابْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمَرُ:
هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَهَا أَنَا عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمٍ وَالْأَيَّامُ دُوَلٌ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا سَوَاءَ، قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ كَمَا تَزْعُمُونَ، فَقَدْ خِبْنَا إِذَنْ وخسرنا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute