للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، إِمَّا بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ، أَمَّا الْإِضْمَارُ بَعْدَهُ فَعَلَى تَقْدِيرِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فَعَلْنَا هَذِهِ الْمُدَاوَلَةَ، وَأَمَّا الْإِضْمَارُ قَبْلَهُ فَعَلَى تَقْدِيرِ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ لِأُمُورٍ، مِنْهَا لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَمِنْهَا لِيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ، وَمِنْهَا لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَمِنْهَا لِيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، فَكُلُّ ذَلِكَ كَالسَّبَبِ وَالْعِلَّةِ فِي تِلْكَ الْمُدَاوَلَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا نَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَامِ: ٧٥] وَقَالَ تَعَالَى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَامِ: ١١٣] وَالتَّقْدِيرُ:

وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ لِيَكُونَ كَيْتَ وَكَيْتَ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ، وَإِنَّمَا حُذِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ لَيْسَتْ بِوَاحِدَةٍ، لِيُسَلِّيَهُمْ عَمَّا جَرَى، وَلِيُعَرِّفَهُمْ أَنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ وَأَنَّ شَأْنَهُمْ فِيهَا، فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ مَا لَوْ عَرَفُوهُ لَسَرَّهُمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا فَعَلَ تِلْكَ الْمُدَاوَلَةَ لِيَكْتَسِبَ هَذَا الْعِلْمَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْإِشْكَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٢] وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٣] وَقَوْلُهُ: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً [الْكَهْفِ: ١٢] وَقَوْلُهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [مُحَمَّدٍ: ٣١] وَقَوْلُهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] وقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: ٧، الملك: ٢] وَقَدِ احْتَجَّ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ إِلَّا عِنْدَ وُقُوعِهَا، فَقَالَ: كُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا صَارَ عَالِمًا بِحُدُوثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ حُدُوثِهَا.

أَجَابَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَنْهُ بِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْحَوَادِثَ قَبْلَ وُقُوعِهَا، فَثَبَتَ أَنَّ التَّغْيِيرَ فِي الْعِلْمِ مُحَالٌ إِلَّا أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْعِلْمِ عَلَى الْمَعْلُومِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَقْدُورِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ، يُقَالُ: هَذَا عِلْمُ فُلَانٍ وَالْمُرَادُ مَعْلُومُهُ، وَهَذِهِ قُدْرَةُ فُلَانٍ وَالْمُرَادُ مَقْدُورُهُ، فَكُلُّ آيَةٍ يُشْعِرُ ظَاهِرُهَا بِتَجَدُّدِ الْعِلْمِ، فَالْمُرَادُ تَجَدُّدُ الْمَعْلُومِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَنَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لِيَظْهَرَ الْإِخْلَاصُ مِنَ النِّفَاقِ وَالْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ.

وَالثَّانِي: لِيَعْلَمَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، فَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ تَفْخِيمًا. وَثَالِثُهَا: لِيَحْكُمَ بِالِامْتِيَازِ، فَوَضَعَ الْعِلْمَ مَكَانَ الْحُكْمِ بِالِامْتِيَازِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالِامْتِيَازِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ. وَرَابِعُهَا: لِيَعْلَمَ ذَلِكَ وَاقِعًا مِنْهُمْ كَمَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقَعُ، لِأَنَّ الْمُجَازَاةَ تَقَعُ عَلَى الْوَاقِعِ دُونَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْعِلْمُ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يُكْتَفَى فِيهِ بِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ، كَمَا يُقَالُ: عَلِمْتُ زَيْدًا، أَيْ عَلِمْتُ ذَاتَهُ وَعَرَفْتُهُ، وَقَدْ يَفْتَقِرُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَمَا يُقَالُ: عَلِمْتُ زَيْدًا كَرِيمًا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي، إِلَّا أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مُتَمَيِّزِينَ بِالْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَيِ الْحِكْمَةُ فِي هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ أَنْ يَصِيرَ الَّذِينَ آمَنُوا مُتَمَيِّزِينَ عَمَّنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ هَاهُنَا مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، بِمَعْنَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ، وَالْمَعْنَى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا يَظْهَرُ مِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، أَيْ لِيَعْرِفَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ إِلَّا أَنَّ سَبَبَ حُدُوثِ هَذَا الْعِلْمِ، وَهُوَ ظُهُورُ الصَّبْرِ حُذِفَ هَاهُنَا.