للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرُ الْحِكْمَةِ الثَّانِيَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَاوَلَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: يَتَّخِذُ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَنِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، فَإِنَّ كَوْنَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ مَنْصِبٌ عَالٍ وَدَرَجَةٌ عَالِيَةٌ. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ وَلِيُكْرِمَ قَوْمًا بِالشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَاتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ يَوْمٌ كَيَوْمِ بَدْرٍ يُقَاتِلُونَ فِيهِ الْعَدُوَّ وَيَلْتَمِسُونَ فِيهِ الشَّهَادَةَ، وَأَيْضًا الْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ تَعْظِيمِ حَالِ الشُّهَدَاءِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٩] وَقَالَ: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ [الزُّمَرِ:

٦٩] وَقَالَ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النِّسَاءِ: ٦٩] فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ هِيَ الْمَنْزِلَةُ الثَّالِثَةُ لِلنُّبُوَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْفَوَائِدِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ تِلْكَ الْمُدَاوَلَةِ حُصُولُ هَذَا الْمَنْصِبِ الْعَظِيمِ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا: مَنْصِبُ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا بِدُونِ تَسْلِيطِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْقَ لِحُسْنِ التَّعْلِيلِ وَجْهٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَتْلُ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ لَوَازِمِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا كَانَ تَحْصِيلُ تِلْكَ الشَّهَادَةِ لِلْعَبْدِ مَطْلُوبًا لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَتْلُ مَطْلُوبًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ مَا بِهِ حَصَلَتْ تِلْكَ الشَّهَادَةُ هُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشُّهَدَاءُ جَمْعُ شَهِيدٍ كَالْكُرَمَاءِ وَالظُّرَفَاءِ، وَالْمَقْتُولُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِسَيْفِ الكفار شهيداً، وَفِي تَعْلِيلِ هَذَا الِاسْمِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الشُّهَدَاءُ أَحْيَاءُ لِقَوْلِهِ: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٩] فَأَرْوَاحُهُمْ حَيَّةٌ وَقَدْ حَضَرَتْ دَارَ السَّلَامِ، وَأَرْوَاحُ غَيْرِهِمْ لَا تَشْهَدُهَا، الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ شَهِدُوا لَهُ بِالْجَنَّةِ، فَالشَّهِيدُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، الثَّالِثُ: سُمُّوا شُهَدَاءَ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ/ عَلَى النَّاسِ [الْبَقَرَةِ:

١٤٣] الرَّابِعُ: سُمُّوا شُهَدَاءَ لِأَنَّهُمْ كَمَا قُتِلُوا أُدْخِلُوا الْجَنَّةَ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُفَّارَ كَمَا مَاتُوا أُدْخِلُوا النَّارَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:

أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نُوحٍ: ٢٥] فَكَذَا هَاهُنَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا مَاتُوا دَخَلُوا الْجَنَّةَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَيِ الْمُشْرِكِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: ١٣] وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ بَعْضِ التَّعْلِيلِ وَبَعْضٍ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ مَنْ لَا يَكُونُ ثَابِتًا عَلَى الْإِيمَانِ صَابِرًا عَلَى الْجِهَادِ. الثَّانِي: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُؤَيِّدُ الْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِمَا ذَكَرَ مِنَ الْفَوَائِدِ، لَا لِأَنَّهُ يُحِبُّهُمْ.

ثُمَّ قَالَ: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ لِيُطَهِّرَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَيُزِيلَهَا عَنْهُمْ، وَالْمَحْصُ فِي اللُّغَةِ التَّنْقِيَةُ، وَالْمَحْقُ فِي اللُّغَةِ النُّقْصَانُ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: هُوَ أَنْ يَذْهَبَ الشَّيْءُ كُلُّهُ حَتَّى لَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [الْبَقَرَةِ: ٢٧٦] أَيْ يَسْتَأْصِلُهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْأَيَّامَ مُدَاوَلَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَإِنْ حَصَلَتِ الْغَلَبَةُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانَ الْمُرَادُ تَمْحِيصَ ذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ كَانَ الْمُرَادُ مَحْقَ آثَارِ الْكَافِرِينَ وَمَحْوَهُمْ، فَقَابَلَ تَمْحِيصَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَحْقِ الْكَافِرِينَ، لِأَنَّ تَمْحِيصَ هَؤُلَاءِ بِإِهْلَاكِ ذُنُوبِهِمْ نَظِيرُ مَحْقِ أُولَئِكَ بِإِهْلَاكِ أنفسهم، وهذه