للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يُوجِبَانِ الضَّعْفَ وَالْكَلَالَ، وَالنَّوْمَ يُفِيدُ عَوْدَ الْقُوَّةِ وَالنَّشَاطِ وَاشْتِدَادَ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا اشْتَغَلُوا بِقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ أَلْقَى اللَّهُ النَّوْمَ عَلَى عَيْنِ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لِئَلَّا يُشَاهِدُوا قَتْلَ أَعِزَّتِهِمْ، فَيَشْتَدَّ الْخَوْفُ وَالْجُبْنُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْأَعْدَاءَ كَانُوا فِي غَايَةِ الْحِرْصِ عَلَى قَتْلِهِمْ، فَبَقَاؤُهُمْ فِي النَّوْمِ مَعَ السَّلَامَةِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ حِفْظَ اللَّهِ وَعِصْمَتَهُ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ مِمَّا يُزِيلُ الْخَوْفَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَيُورِثُهُمْ مَزِيدَ الْوُثُوقِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: ذِكْرُ النُّعَاسِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ الْأَمْنِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ تَرْكُ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ مَعَ اشْتِمَالِهَا عَلَى هَذِهِ الْفَوَائِدِ وَالْحِكَمِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تَغْشى بِالتَّاءِ رَدًّا إِلَى الْأَمَنَةِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ رَدًّا، إِلَى النُّعَاسِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَاتِمٍ وَخَلَفٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمَنَةَ وَالنُّعَاسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ، فَلَا جَرَمَ يَحْسُنُ رَدُّ الْكِنَايَةِ إِلَى أَيِّهِمَا شِئْتَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ [الدُّخَانِ: ٤٣- ٤٥] وَتَغْلِي، إِذَا عَرَفْتَ جَوَازَهُمَا فَنَقُولُ: مِمَّا يُقَوِّي الْقِرَاءَةَ بِالتَّاءِ أَنَّ الْأَصْلَ الْأَمَنَةُ، وَالنُّعَاسُ بَدَلٌ، وَرَدُّ الْكِنَايَةِ إِلَى الْأَصْلِ أَحْسَنُ، وَأَيْضًا الْأَمَنَةُ هِيَ الْمَقْصُودُ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْأَمَنَةُ حَصَلَ النُّعَاسُ لِأَنَّهَا سَبَبُهُ، فَإِنَّ الْخَائِفَ لَا يَكَادُ يَنْعَسُ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَحُجَّتُهُ أَنَّ النُّعَاسَ هُوَ الْغَاشِي، فَإِنَّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ غَشِيَنَا النُّعَاسُ، وَقَلَّمَا يَقُولُونَ غَشِيَنِي مِنَ النُّعَاسِ أَمَنَةٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ النُّعَاسَ مَذْكُورٌ بِالْغَشَيَانِ فِي قَوْلِهِ: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الْأَنْفَالِ: ١١] وَأَيْضًا: النُّعَاسُ يَلِي الْفِعْلَ، وَهُوَ أَقْرَبُ فِي اللَّفْظِ إِلَى ذِكْرِ الْغَشَيَانِ مِنَ الْأَمَنَةِ فَالتَّذْكِيرُ أَوْلَى.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَمُعَتَّبُ بْنُ قُشَيْرٍ وَأَصْحَابُهُمَا، كَانَ هَمُّهُمْ/ خَلَاصَ أَنْفُسِهِمْ، يُقَالُ: هَمَّنِي الشَّيْءُ أَيْ كَانَ مِنْ هَمِّي وَقَصْدِي، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولُوا لِمَنْ خَافَ، قَدْ أَهَمَّتْهُ نَفْسُهُ، فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ لِشِدَّةِ خَوْفِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ طَارَ النَّوْمُ عَنْهُمْ، وَقِيلَ الْمُؤْمِنُونَ، كَانَ هَمَّهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِخْوَانَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُنَافِقُونَ كَانَ هَمُّهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اشْتَدَّ اشْتِغَالُهُ بِالشَّيْءِ وَاسْتِغْرَاقُهُ فِيهِ، صَارَ غَافِلًا عَمَّا سِوَاهُ، فَلَمَّا كَانَ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، فَعِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ يَصِيرُ ذَاهِلًا عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْخَوْفِ وَهِيَ قَصْدُ الْأَعْدَاءِ كَانَتْ حَاصِلَةً وَالدَّافِعُ لِذَلِكَ وَهُوَ الْوُثُوقُ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعْدِ رَسُولِهِ مَا كَانَ مُعْتَبَرًا عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالرَّسُولِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَا جَرَمَ عَظُمَ الْخَوْفُ فِي قلوبهم.

المسألة الثانية: «طائفة» رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ «يَظُنُّونَ» وَقِيلَ خَبَرُهُ «أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ» ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذِهِ الطَّائِفَةَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ.

الصِّفَةُ الْأُولَى: مِنْ صِفَاتِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَا الظَّنِّ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ لَمَا سُلِّطَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِ وَهَذَا ظَنٌّ فَاسِدٌ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّ النُّبُوَّةَ خِلْعَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يُشَرِّفُ عَبْدَهُ بِهَا، وَلَيْسَ يَجِبُ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الْمَوْلَى إِذَا شَرَّفَ عَبْدَهُ بِخِلْعَةٍ أَنْ يُشَرِّفَهُ بِخِلْعَةٍ أُخْرَى، بَلْ لَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَيْفَ