شَاءَ بِحُكْمِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَعْتَبِرُ الْمَصَالِحَ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، بِحَيْثُ يَقْهَرُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، حِكَمٌ خَفِيَّةٌ وَأَلْطَافٌ مَرْعِيَّةٌ، فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ الِامْتِحَانِ وَالِابْتِلَاءِ، وَوُجُوهُ الْمَصَالِحِ مَسْتُورَةٌ عَنِ الْعُقُولِ، فَرُبَّمَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَقْهَرَ الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ، وَرُبَّمَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي تَسْلِيطِ الْفَقْرِ وَالزِّمَانَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْقَفَّالُ: لَوْ كَانَ كَوْنُ الْمُؤْمِنِ مُحِقًّا يُوجِبُ زَوَالَ هَذِهِ الْمَعَانِي لَوَجَبَ أَنْ يُضْطَرَّ النَّاسُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ بِالْجَبْرِ، وَذَلِكَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ وَاسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، بَلِ الْإِنْسَانُ إِنَّمَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ مُحِقًّا بِمَا مَعَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، فَأَمَّا الْقَهْرُ فَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْمُبْطِلِ لِلْمُحِقِّ، وَمِنَ الْمُحِقِّ لِلْمُبْطِلِ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِالدَّوْلَةِ وَالشَّوْكَةِ وَوُفُورِ الْقُوَّةِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا عَلَى الْحَقِّ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ إِلَهَ الْعَالَمِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، وَيُنْكِرُونَ النُّبُوَّةَ وَالْبَعْثَ، فَلَا جَرَمَ مَا وَثِقُوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّ اللَّهَ يُقَوِّيهِمْ وَيَنْصُرُهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: غَيْرَ الْحَقِّ فِي حُكْمِ الْمَصْدَرِ، وَمَعْنَاهُ: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الظَّنِّ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ وظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بَدَلٌ مِنْهُ، وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ: أَدْيَانٌ كَثِيرَةٌ، وَأَقْبَحُهَا مَقَالَاتُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الظَّنِّ الْحَقِّ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمُ اخْتَارُوا مِنْ أَقْسَامِ الْأَدْيَانِ الَّتِي غَيْرُ حَقَّةٍ أَرَكَّهَا وَأَكْثَرَهَا بُطْلَانًا، وَهُوَ ظَنُّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ دِينُهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، دِينُهُ دِينُ الْمَلَاحِدَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَقَوْلِكَ: حَاتِمُ الْجُودِ، وَعُمَرُ الْعَدْلِ، يُرِيدُ الظَّنَّ الْمُخْتَصَّ بِالْمِلَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالثَّانِي: الْمُرَادُ ظَنَّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قوله هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ حِكَايَةٌ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ أَهْلُ النِّفَاقِ بِهَا، وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا شَاوَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ إِنَّ الصَّحَابَةَ أَلَحُّوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عَصَانِي وَأَطَاعَ الْوِلْدَانَ، ثُمَّ لَمَّا كَثُرَ الْقَتْلُ فِي بَنِي الْخَزْرَجِ وَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ قِيلَ لَهُ: قُتِلَ بَنُو الْخَزْرَجِ، فَقَالَ: هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ، يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَقْبَلْ قَوْلِي حِينَ أَمَرْتُهُ بِأَنْ يَسْكُنَ فِي الْمَدِينَةِ وَلَا يَخْرُجَ مِنْهَا، وَنَظِيرُهُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٨] وَالْمَعْنَى: هَلْ لَنَا مِنْ أَمْرٍ يُطَاعُ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي التَّأْوِيلِ: أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الدَّوْلَةُ لِعَدُوِّهِ قَالُوا: عَلَيْهِ الْأَمْرُ، فَقَوْلُهُ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ هَلْ لَنَا مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ يَعِدُنَا بِهِ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ النُّصْرَةُ وَالْقُوَّةُ شَيْءٌ وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَكَانَ غَرَضُهُمْ مِنْهُ الِاسْتِدْلَالَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَاذِبًا فِي ادِّعَاءِ النُّصْرَةِ وَالْعِصْمَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأُمَّتِهِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَنَطْمَعُ أَنْ تَكُونَ لَنَا الْغَلَبَةُ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَصْبِيرُ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّشْدِيدِ فِي الْجِهَادِ وَالْحَرْبِ مَعَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (كُلُّهِ) بِرَفْعِ اللَّامِ، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، أَمَّا وَجْهُ الرَّفْعِ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: (كُلُّهُ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute