للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: (لِلَّهِ) خَبَرُهُ، ثُمَّ صَارَتْ هَذِهِ الجملة خبراً لإن، وَأَمَّا النَّصْبُ فَلِأَنَّ لَفْظَةَ «كُلٍّ» لِلتَّأْكِيدِ، فَكَانَتْ كَلَفْظَةِ أَجْمَعَ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ أَجْمَعَ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا النَّصْبُ، فَكَذَا إِذَا قَالَ «كُلَّهُ» .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ مَا بَيَّنَّا: أَنَّا إِذَا قُلْنَا بِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى اللَّهِ اعْتِرَاضٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ فِي الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ، وَالْفَقْرِ وَالْإِغْنَاءِ وَالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَإِنْ قُلْنَا بِمَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ، فَوُجُوهُ الْمَصَالِحِ مَخْفِيَّةٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَرُبَّمَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي إِيصَالِ السُّرُورِ وَاللَّذَّةِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ فِي تَسْلِيطِ الْأَحْزَانِ وَالْآلَامِ، فَقَدِ انْدَفَعَتْ شُبْهَةُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمُحْدَثَاتِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا لَوْ قَبِلَ مِنَّا رَأْيَنَا وَنُصْحَنَا، لَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمِحْنَةِ، فَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ: إِنَّمَا يَنْتَظِمُ لَوْ كَانَتْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ إِذْ لَوْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ مَشِيئَتِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْجَوَابُ دَافِعًا لِشُبْهَةِ الْمُنَافِقِينَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَأَيْضًا فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُطَابِقٌ لِلْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ، إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ أَوْ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يَتَرَجَّحُ وُجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَنِدٌ إِلَى إِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِمُحْدَثٍ دُونَ مُحْدَثٍ، أَوْ مُمْكِنٍ دُونَ مُمْكِنٍ، فَتَدْخُلُ فِيهِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَحَرَكَاتُهُمْ وَسَكَنَاتُهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِلْإِنْصَافِ.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ [إلى آخر الآية] .

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ، وَهَذَا الْكَلَامُ مُحْتَمَلٌ، فَلَعَلَّ قَائِلَهُ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحِقِّينَ، وَكَانَ غَرَضُهُ مِنْهُ إِظْهَارَ الشَّفَقَةِ، وَإِنَّهُ مَتَى يَكُونُ الْفَرَجُ؟ وَمِنْ أَيْنَ تَحْصُلُ النُّصْرَةُ؟ وَلَعَلَّهُ كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَإِنَّمَا قَالَهُ طَعْنًا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْإِسْلَامِ فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ غَرَضَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي، وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّنْبِيهِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَحَرِّزًا عَنْ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَكَى اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، قَوْلُهُمْ: لَوْ كان لنا من الأمر شيء ما قلنا هَاهُنَا.

وَفِيهِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْكَلَامِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَاحْتَجَّ الْمُنَافِقُونَ عَلَى الطَّعْنِ فِي هَذَا الْجَوَابِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ لَمَا خَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ وَمَا قُتِلْنَا هَاهُنَا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَهَذَا هُوَ بِعَيْنِهِ الْمُنَاظَرَةُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الِاعْتِزَالِ/ فَإِنَّ السُّنِّيَّ يَقُولُ: الْأَمْرُ كُلُّهُ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ بِيَدِ اللَّهِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَزِلِيُّ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مُخْتَارٌ مُسْتَقِلٌّ بِالْفِعْلِ، إِنْ شَاءَ آمَنَ، وَإِنْ شَاءَ كَفَرَ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ شُبْهَةً مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا، بَلْ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ الطَّعْنَ فِيمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَوَابًا عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَنَّهُ هَلْ لَنَا مِنَ النُّصْرَةِ الَّتِي وَعَدَنَا بِهَا مُحَمَّدٌ شَيْءٌ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا هُوَ مَا كَانَ يَقُولُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مِنْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَوْ أَطَاعَنِي وَمَا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أوجه: