للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كَيْ يَزُولَ هَذَا الْخَوْفُ، فَإِنْ خِفْتُمْ فِي الْأَرْبَعِ أَيْضًا فَوَاحِدَةً، فَذَكَرَ الطَّرَفَ الزَّائِدَ وَهُوَ الْأَرْبَعُ، وَالنَّاقِصَ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى مَا بَيْنَهُمَا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ مِنَ الْأَرْبَعِ فَثَلَاثٌ، فَإِنْ خِفْتُمْ فَاثْنَتَانِ، فَإِنْ خِفْتُمْ فَوَاحِدَةٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى خَوَّفَ مِنَ الْإِكْثَارِ مِنَ النِّكَاحِ بِمَا عَسَاهُ يَقَعُ مِنَ الْوَلِيِّ مِنَ التَّعَدِّي فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِلْحَاجَةِ إِلَى الْإِنْفَاقِ الْكَثِيرِ عِنْدَ التَّزَوُّجِ بالعدد الكثير.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا.

فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَصْحَابُ الظَّاهِرِ: النِّكَاحُ وَاجِبٌ وَتَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَانْكِحُوا أَمْرٌ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَتَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٥] إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ فَحَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّ تَرْكَ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ وَاجِبٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: مَا طابَ وَلَمْ يَقُلْ: مَنْ طَابَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ تَقُولُ: مَا عِنْدَكَ؟ فَيَقُولُ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ، وَالْمَعْنَى مَا ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي عِنْدَكَ، وَمَا تِلْكَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي عِنْدَكَ، وَثَانِيهَا: أَنَّ (مَا) مَعَ مَا بَعْدَهُ فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، وَتَقْدِيرُهُ: فَانْكِحُوا الطَّيِّبَ مِنَ النِّسَاءِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ «مَا» وَ «مَنْ» رُبَّمَا يَتَعَاقَبَانِ. قَالَ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشَّمْسِ: ٥] وَقَالَ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: ٢] وَحَكَى أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: سُبْحَانَ مَا سَبَّحَ لَهُ الرَّعْدُ، وَقَالَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [النُّورِ: ٤٥] وَرَابِعُهَا: إِنَّمَا ذَكَرَ «مَا» تَنْزِيلًا لِلْإِنَاثِ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ. وَمِنْهُ: قَوْلُهُ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج: ٣٠] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ مَا طابَ لَكُمْ أَيْ مَا حَلَّ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ لِأَنَّ مِنْهُنَّ مَنْ يَحْرُمُ نِكَاحُهَا، وَهِيَ الْأَنْوَاعُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٣] وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: فَانْكِحُوا أَمْرُ إِبَاحَةٍ. فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا طابَ لَكُمْ أَيْ مَا حَلَّ لَكُمْ لَنَزَلَتِ الْآيَةُ مَنْزِلَةَ مَا يُقَالُ: أَبَحْنَا لَكُمْ نِكَاحَ مَنْ يَكُونُ نِكَاحُهَا مُبَاحًا لَكُمْ: وَذَلِكَ يُخْرِجُ الْآيَةَ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ تَصِيرُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحِلِّ وَالْإِبَاحَةِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَذْكُورَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً لَا مَحَالَةَ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الطَّيِّبَ عَلَى اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ وَمَيْلِ الْقَلْبِ، كَانَتِ الْآيَةُ عَامًّا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْإِجْمَالِ وَالتَّخْصِيصِ كَانَ رَفْعُ الْإِجْمَالِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وَالْمُجْمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً أَصْلًا.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ مَعْنَاهُ: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهَا أَمْرَانِ: الْعَدْلُ وَالْوَصْفُ، أَمَّا الْعَدْلُ فَلِأَنَّ الْعَدْلَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّكَ تَذْكُرُ كَلِمَةً وَتُرِيدُ بِهَا كَلِمَةً أُخْرَى، كَمَا تَقُولُ: عُمَرُ وزفر وتريد به عامراً وزافرا، فكذا هاهنا تُرِيدُ بِقَوْلِكَ: مَثْنَى: ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ فَكَانَ مَعْدُولًا، وَأَمَّا أَنَّهُ وَصْفٌ، فَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [فَاطِرٍ: ١] وَلَا شَكَّ أنه وصف.