للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ غَيْرُ مُنْصَرِفَةٍ أَنَّ فِيهَا عَدْلَيْنِ لِأَنَّهَا مَعْدُولَةٌ عَنْ أُصُولِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَأَيْضًا أَنَّهَا مَعْدُولَةٌ عَنْ تَكَرُّرِهَا فَإِنَّكَ لَا تُرِيدُ بِقَوْلِكَ: مَثْنَى ثِنْتَيْنِ فَقَطْ، بَلْ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، فَإِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ كَانَ غَرَضُكَ الْإِخْبَارَ عَنْ مَجِيءِ هَذَا الْعَدَدِ فَقَطْ، أَمَّا إِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي الْقَوْمُ مَثْنَى أَفَادَ أَنَّ تَرْتِيبَ مَجِيئِهِمْ وَقَعَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ نَوْعَانِ مِنَ الْعَدَدِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الصَّرْفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الِاسْمِ سَبَبَانِ أَوْجَبَ ذَلِكَ مَنْعُ الصَّرْفِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ لِأَجْلِ ذَلِكَ نَائِبًا مِنْ جِهَتَيْنِ فَيَصِيرُ مُشَابِهًا لِلْفِعْلِ فَيَمْتَنِعُ صَرْفُهُ، وَكَذَا إِذَا حَصَلَ فِيهِ الْعَدْلُ مِنْ جِهَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ صَرْفُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَبِيدَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِطَابَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ إِنْسَانًا مَتَى طَابَتْ لَهُ امْرَأَةٌ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِهَا، وَالْعَبْدُ لَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ النِّكَاحِ إِلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النَّحْلِ: ٧٥] فَقَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ يَنْفِي كَوْنَهُ مُسْتَقِلًّا بِالنِّكَاحِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ

فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ»

فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ/ هَذِهِ الْآيَةَ لَا يَنْدَرِجُ فِيهَا الْعَبْدُ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ مَشْرُوعٌ لِلْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَحِلُّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأَرْبَعِ وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ.

وَالْجَوَابُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ احْتَجَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَحْرَارِ بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْأَحْرَارِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاءِ: ٤] وَالْعَبْدُ لَا يَأْكُلُ مَا طَابَتْ عَنْهُ نَفْسُ امْرَأَتِهِ مِنَ الْمَهْرِ، بَلْ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا وَرَدَ عُمُومَانِ مُسْتَقِلَّانِ، فَدُخُولُ التَّقْيِيدِ فِي الْأَخِيرِ لَا يُوجِبُ دُخُولَهُ فِي السَّابِقِ.

أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْخِطَابَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَرَدَتْ مُتَوَالِيَةً عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ فَلَمَّا عُرِفَ فِي بَعْضِهَا اخْتِصَاصُهَا بِالْأَحْرَارِ عُرِفَ أَنَّ الْكُلَّ كَذَلِكَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ عَلِمَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَنَاوِلٌ لِلْعَبِيدِ إِلَّا أَنَّهُمْ خَصَّصُوا هَذَا الْعُمُومَ بِالْقِيَاسِ، قَالُوا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ لِلرِّقِّ تَأْثِيرًا فِي نُقْصَانِ حُقُوقِ النِّكَاحِ، كَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَدَدُ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لِلْعَبْدِ نِصْفُ مَا لِلْحُرِّ، وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَقْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ذَهَبَ قوم سدى إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِأَيِّ عَدَدٍ أُرِيدَ، وَاحْتَجُّوا بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ إِطْلَاقٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْدَادِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا عَدَدَ إِلَّا وَيَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ دَاخِلًا. وَالثَّانِي:

أَنَّ قَوْلَهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لَا يَصْلُحُ تَخْصِيصًا لِذَلِكَ الْعُمُومِ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْأَعْدَادِ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْبَاقِي، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ يَدُلُّ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْحَجْرِ مُطْلَقًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ لِوَلَدِهِ: افْعَلْ مَا شِئْتَ اذْهَبْ إِلَى السُّوقِ وَإِلَى الْمَدِينَةِ وَإِلَى الْبُسْتَانِ، كَانَ تَنْصِيصًا فِي تَفْوِيضِ زِمَامِ الْخِيَرَةِ إِلَيْهِ مُطْلَقًا، وَرَفْعِ الْحَجْرِ وَالْحَرَجِ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِلْإِذْنِ بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، بَلْ كَانَ إذنا في المذكور وغيره فكذا هاهنا، وَأَيْضًا فَذِكْرُ جَمِيعِ الْأَعْدَادِ مُتَعَذَّرٌ، فَإِذَا ذَكَرَ بَعْضَ الْأَعْدَادِ بَعْدَ قَوْلِهِ: