للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُنَا: وَجَدَ، لَا يُشْعِرُ بِسَبْقِ الطَّلَبِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضُّحَى: ٧، ٨] وَقَوْلِهِ: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [الْأَعْرَافِ: ١٠٢] وَقَوْلِهِ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً فَإِنَّ الطَّلَبَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ.

قُلْنَا: الطَّلَبُ وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُحَالًا، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ لَائِقًا لِقَوْمِهِ صَارَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ طَلَبَهُ، وَلَمَّا أَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ بِالطَّاعَاتِ ثُمَّ إِنَّهُمْ قَصَّرُوا فِيهَا صَارَ كَأَنَّهُ طَلَبَ شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يَجِدْهُ، فَخَرَجَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْمَاءَ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِعَطَشِهِ أَوْ عَطَشِ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ، أَمَّا إِذَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْمَاءِ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ؟ قَدْ أَوْجَبَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ لَفْظِ الْآيَةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً وفي مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ، يُقَالُ: أَمَمْتُهُ وَتَيَمَّمْتُهُ وَتَأَمَّمْتُهُ، أَيْ قصدته وأما الصَّعِيدِ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الصَّاعِدِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ، تُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَوْ فَرَضْنَا صَخْرًا لَا تُرَابَ عَلَيْهِ فَضَرَبَ الْمُتَيَمِّمُ يَدَهُ عَلَيْهِ وَمَسَحَ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تُرَابٍ يَلْتَصِقُ بِيَدِهِ. احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: التَّيَمُّمُ هُوَ الْقَصْدُ، وَالصَّعِيدُ هُوَ مَا تَصَاعَدَ مِنَ الْأَرْضِ، فَقَوْلُهُ: فَتَيَمَّمُوا/ صَعِيداً طَيِّباً أَيِ اقْصُدُوا أَرْضًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَدْرُ كَافِيًا. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هذه الآية هاهنا مُطْلَقَةٌ، وَلَكِنَّهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ مُقَيَّدَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [الْمَائِدَةِ: ٦] وَكَلِمَةُ «مِنْ» لِلتَّبْعِيضِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي الصَّخْرِ الَّذِي لَا تُرَابَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ «مِنْ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَسَحْتُ بِرَأْسِهِ مِنَ الدُّهْنِ وَمِنَ الْمَاءِ وَمِنَ التُّرَابِ: إِلَّا مَعْنَى التَّبْعِيضِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْإِذْعَانُ لِلْحَقِّ أَحَقُّ مِنَ الْمِرَاءِ. الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَوْنَ الصَّعِيدِ طَيِّبًا، وَالْأَرْضُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الَّتِي تُنْبِتُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الْأَعْرَافِ: ٥٨] فَوَجَبَ فِي الَّتِي لَا تُنْبِتُ أَنْ لَا تَكُونَ طَيِّبَةً، فَكَانَ قَوْلُهُ:

فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أَمْرًا بِالتَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ فَقَطْ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ للوجوب. أَنَّ قَوْلَهُ: صَعِيداً طَيِّباً أَمْرٌ بِإِيقَاعِ التَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، وَالصَّعِيدُ الطَّيِّبُ هُوَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا سَبَخَةَ فِيهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّيَمُّمَ بِهَذَا التُّرَابِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ عَلَيْهِ رِعَايَةً لِقَاعِدَةِ الِاحْتِيَاطِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ خَصَّصَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ التُّرَابَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ،

فَقَالَ: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرَابُهَا طَهُورًا»

وَقَالَ: «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ» .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مَحْمُولٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ يَجِبُ مَسْحُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ اسْمَ الْيَدِ يَتَنَاوَلُ جُمْلَةَ هَذَا الْعُضْوِ إِلَى الْإِبِطَيْنِ، إِلَّا أَنَّا أَخْرَجْنَا الْمِرْفَقَيْنِ مِنْهُ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، فَبَقِيَ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لِلْبَاقِي. ثُمَّ خَتَمَ تَعَالَى

<<  <  ج: ص:  >  >>