للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هاهنا مَطْمَعٌ إِلَّا فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ، وَنَرَى أَنَّ الدِّيَةَ وَجَبَتْ بِسَبَبٍ أَقْوَى مِنَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلزَّكَاةِ، ثُمَّ إِنَّا رَأَيْنَا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَجْعَلْ لِبَنِي مَخَاضٍ دَخْلًا فِي بَابِ الزَّكَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا دَخْلٌ فِي بَابِ الدِّيَةِ أَيْضًا. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ كَانَتْ ثَابِتَةٌ، وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ، فَكَانَتِ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ بَاقِيَةً، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ إِلَّا لِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ فَنَقُولُ: الْأَوَّلُ هُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَاعْتَرَفْنَا بِوُجُوبِهِ: وَأَمَّا الزَّائِدُ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الذِّمَّةَ مَشْغُولَةٌ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ، وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ، وَقَدْ رَأَيْنَا حُصُولَ الِاتِّفَاقِ عَلَى السُّقُوطِ بِأَدَاءِ أَكْثَرِ مَا قِيلَ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ ذَلِكَ السُّقُوطُ عِنْدَ أَدَاءِ أَقَلِّ مَا فِيهِ، واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا لَمْ تُوجَدِ الْإِبِلُ، فَالْوَاجِبُ إِمَّا أَلْفُ دِينَارٍ، أَوِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بَلِ الْوَاجِبُ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: مَا رَوَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. قَالَ: كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ وَثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا اسْتَخْلَفَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَامَ خَطِيبًا وَقَالَ: إِنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ أَثْمَانُهَا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ فَرَضَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَجْمَعِ الصَّحَابَةِ وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا. حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَقَلِّ أَوْلَى، وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ وَجُمْهُورُ الْخَوَارِجِ: الدِّيَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْقَاتِلِ، قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَا شَكَّ أَنَّهُ إِيجَابٌ لِهَذَا التَّحْرِيرِ، وَالْإِيجَابُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ شَخْصٍ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ، وَالْمَذْكُورُ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْقَاتِلُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَهَذَا التَّرْتِيبُ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّ هَذَا التَّحْرِيرَ إِنَّمَا أَوْجَبَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ صَدَرَتْ مِنْهُ، وَالْمَعْقُولُ هُوَ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى الْمُتْلِفِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ صَدَرَ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْخَطَأِ. وَلَكِنَّ الْفِعْلَ الْخَطَأَ قَائِمٌ فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، مع أن تلك الضمانات لا تجب إلى على المتلف، فكذا هاهنا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَيْئَيْنِ: تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَتَسْلِيمُ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيرَ وَاجِبٌ عَلَى الْجَانِي، فَكَذَا الدِّيَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَى الْقَاتِلِ، ضَرُورَةَ أَنَّ اللَّفْظَ وَاحِدٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ جِنَايَةٌ وَلَا مَا يُشْبِهُ الْجِنَايَةَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُمْ شَيْءٌ لِلْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا القرآن فقوله تعالى: لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَامِ: ١٦٤] وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الْأَنْعَامِ: ١٦٤] وَقَالَ: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَةِ:

٢٨٦] وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا

رُوِيَ أَنَّ أَبَا رِمْثَةَ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ابْنُهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ هَذَا فَقَالَ ابْنِي، قَالَ إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ،

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِخْبَارَ عَنْ نَفْسِ الْجِنَايَةِ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ أَثَرَ جِنَايَتِكَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى وَلَدِكَ وَبِالْعَكْسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيجَابَ الدِّيَةِ عَلَى الْجَانِي أَوْلَى مِنْ إِيجَابِهَا عَلَى الْغَيْرِ. الْخَامِسُ: أَنَّ النُّصُوصَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَالَ الْإِنْسَانِ مَعْصُومٌ وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النِّسَاءِ: ٢٩]

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ امْرِئٍ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ»

وَقَالَ: «حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ»

وَقَالَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ الْمُسْلِمِ إِلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ»

تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِهَذِهِ الْعُمُومَاتِ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي عَرَفْنَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ كَوْنَهَا مُوجِبَةً لِجَوَازِ الْأَخْذِ كَمَا قلنا في

<<  <  ج: ص:  >  >>