للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نَصارى

[الْبَقَرَةِ: ١١١] وَقَوْلُهُمْ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: ١٨] فَلَا يُعَذِّبُنَا، وَقَوْلُهُمْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: ٨٠] .

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَانِيُّهُمْ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَإِنِ ارْتَكَبُوا الْكَبَائِرَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَخُصُّ بِالْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ مَنْ يَشَاءُ كَمَا قَالَ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ١١٦] وَرُوِيَ أَنَّهُ تَفَاخَرَ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَنَحْنُ أَوْلَى باللَّه مِنْكُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَكِتَابُنَا نَاسِخُ الْكُتُبِ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْفُو عَنْ شَيْءٍ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يُشْكِلُ بِالصَّغَائِرِ فَإِنَّهَا مَغْفُورَةٌ قَالُوا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ صَاحِبَ الصَّغِيرَةِ قَدِ انْحَبَطَ مِنْ ثَوَابِ طَاعَتِهِ بِمِقْدَارِ عِقَابِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، فَهَهُنَا قَدْ وَصَلَ جَزَاءُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ إِلَيْهِ.

أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى عُمُومَاتِهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: ٨١] وَالَّذِي نَزِيدُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ هَذَا الْجَزَاءِ مَا يَصِلُ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْغُمُومِ وَالْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا [الْمَائِدَةِ: ٣٨] سَمَّى ذَلِكَ الْقَطْعَ بِالْجَزَاءِ/ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا

رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: كَيْفَ الصَّلَاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ غَفَرَ اللَّه لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْتَ تَمْرَضُ، أَلَيْسَ يُصِيبُكَ الْأَذَى فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ:

أَنُجْزَى بِكُلِّ مَا نَعْمَلُ لَقَدْ هَلَكْنَا، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامُهُ فَقَالَ: يُجْزَى الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا بِمُصِيبَتِهِ فِي جَسَدِهِ وَمَا يُؤْذِيهِ،

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَكَيْنَا وَحَزِنَّا وَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّه مَا أَبْقَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَنَا شَيْئًا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصلاة والسلام: «أبشروا فإنه لا يصيب أحدا مِنْكُمْ مُصِيبَةٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا جَعَلَهَا اللَّه لَهُ كَفَّارَةً حَتَّى الشَّوْكَةُ الَّتِي تَقَعُ فِي قَدَمِهِ» .

الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: هَبْ أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ الْجَزَاءُ بِنَقْصِ ثَوَابِ إِيمَانِهِ وَسَائِرِ طَاعَاتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ وَالْمَعْقُولُ.

أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: ١١٤] .

وَأَمَّا الْخَبَرُ: فَمَا

رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَشَقَّةً شَدِيدَةً، وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه وَأَيُّنَا لَمْ يعمل سوأ فَكَيْفَ الْجَزَاءُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ عَلَى الطَّاعَةِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ الْوَاحِدَةِ عُقُوبَةً وَاحِدَةً فَمَنْ جُوزِيَ بِالسَّيِّئَةِ نَقَصَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ عَشَرَةٍ وَبَقِيَتْ لَهُ تِسْعُ حَسَنَاتٍ فَوَيْلٌ لِمَنْ غَلَبَتْ آحَادُهُ أَعْشَارَهُ» .

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ ثَوَابَ الْإِيمَانِ وَجَمِيعَ الطَّاعَاتِ أَعْظَمُ لَا مَحَالَةَ مِنْ عِقَابِ الْكَبِيرَةِ الْوَاحِدَةِ والعدل

<<  <  ج: ص:  >  >>