للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَقْتَضِي أَنْ يُحَطَّ مِنَ الْأَكْثَرِ مِثْلُ الْأَقَلِّ، فَيَبْقَى حِينَئِذٍ مِنَ الْأَكْثَرِ شَيْءٌ زَائِدٌ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِسَبَبِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النِّسَاءِ: ١٢٤] فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي أَطَاعَ اللَّه سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ شَرِبَ قَطْرَةً مِنَ الْخَمْرِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلُهُمْ: خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا فَهُوَ بَاطِلٌ لِلدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا إِلَى قَوْلِهِ فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى [الْحُجُرَاتِ: ٩] سَمَّى الْبَاغِيَ حَالَ كَوْنِهِ بَاغِيًا مؤمنا، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَةِ: ١٧٨] سَمَّى صَاحِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ مُؤْمِنًا، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ [التَّحْرِيمِ: ٨] سَمَّاهُ مُؤْمِنًا حَالَ مَا أَمَرَهُ بِالتَّوْبَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وَإِذَا كَانَ مُؤْمِنًا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ حُجَّةً فِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ مَخْصُوصًا بِأَهْلِ الْكُفْرِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ فِي الْجَوَابِ: هَبْ أَنَّ النَّصَّ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ٤٨] أَخَصُّ مِنْهُ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَلِأَنَّ إِلْحَاقَ التَّأْوِيلِ بِعُمُومَاتِ الْوَعِيدِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِعُمُومَاتِ الْوَعْدِ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ كَرَمٌ، وَإِهْمَالَ الْوَعِيدِ وَحَمْلَهُ عَلَى التَّأْوِيلِ بِالتَّعْرِيضِ جُودٌ وَإِحْسَانٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَدَخَلَ فِيهِ مَا صَدَرَ عَنِ الْكُفَّارِ مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ قَوْلُهُ يُجْزَ بِهِ يَدُلُّ عَلَى وُصُولِ جَزَاءِ كُلِّ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ عِبَارَةً عَمَّا يَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ فِي الدُّنْيَا.

قُلْنَا: إِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلَ جَزَاءُ أَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى إِيصَالِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ إِلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَنَعُّمُهُمْ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرَ ولذاتهم هاهنا أَكْمَلَ، وَلِذَلِكَ

قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ»

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ جَزَاءَ أَفْعَالِهِمُ الْمَحْظُورَةِ تَصِلُ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِوُصُولِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ إِلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ، وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ بِعَمَلِ السُّوءِ يَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ، وَإِذَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مَجْمُوعِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّه غَيْرُ خَالِقٍ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَمَلًا لِلْعَبْدِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ عَمَلًا للَّه تَعَالَى لِاسْتِحَالَةِ حُصُولِ مَقْدُورٍ واحد بِقَادِرَيْنِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى لَمَا اسْتَحَقَّ الْعَبْدُ عَلَيْهِ جَزَاءً الْبَتَّةَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، لَأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ عَلَى عَمَلِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ مُكَرَّرٌ في هذا الكتاب.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.

قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ، وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ. وَالثَّانِي: أَنَّ شَفَاعَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ فِي حَقِّ الْعُصَاةِ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا وَلِيَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>