للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ لِلْوُجُوبِ إلا أنه لا يفيد هاهنا إِلَّا الْإِبَاحَةَ. وَكَذَا فِي قَوْلِهِ فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الْجُمُعَةِ: ١٠] وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا تَدْخُلَّنَ هَذِهِ الدَّارَ حَتَّى تُؤَدِّيَ ثَمَنَهَا، فَإِذَا أَدَّيْتَ فَادْخُلْهَا، أَيْ فَإِذَا أَدَّيْتَ فَقَدْ أُبِيحَ لَكَ دُخُولُهَا، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّا إنما عرفنا أن الأمر هاهنا لَمْ يُفِدِ الْوُجُوبَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ واللَّه أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَعْنِي وَلَا تَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَتُكُمْ لِقَوْمٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى أَنْ تَعْتَدُوا فَتَمْنَعُوهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ الْبَاطِلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَدَى بِهِ. وَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى الْعُدْوَانِ حَتَّى إِذَا تَعَدَّى وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ تَعَدَّى ذَلِكَ الْآخَرُ عَلَيْهِ، لكن الجواب أَنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى مَا فِيهِ الْبِرُّ وَالتَّقْوَى، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» جَرَمَ يَجْرِي مَجْرَى كَسَبَ فِي تَعَدِّيهِ تَارَةً إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَتَارَةً إِلَى اثْنَيْنِ، تَقُولُ: جَرَمَ ذَنْبًا نَحْوَ كَسَبَهُ، وَجَرَمْتُهُ ذَنْبًا نَحْوَ كَسَبْتُهُ إِيَّاهُ، وَيُقَالُ: أَجْرَمْتُهُ ذَنْبًا عَلَى نَقْلِ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ بِالْهَمْزَةِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَقَوْلِهِمْ: أَكْسَبْتُهُ ذَنْبًا، وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّه وَلَا يُجْرِمَنَّكُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَأَوَّلُ الْمَفْعُولَيْنِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِينَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَعْتَدُوا، وَالْمَعْنَى لَا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ لِأَنْ صَدُّوكُمُ الِاعْتِدَاءَ وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ عَلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشَّنَآنُ الْبُغْضُ، يُقَالُ: شَنَأْتُ الرَّجُلَ أشنؤه شنأ ومشنأ وَمَشْنَأَةً وَشَنَآنًا بِفَتْحِ الشِّينِ وَكَسْرِهَا، وَيُقَالُ: رَجُلٌ شَنَآنٌ وَامْرَأَةٌ شَنَآنَةٌ مَصْرُوفَانِ، وَيُقَالُ شَنَآنُ بِغَيْرِ صَرْفٍ، وَفَعَلَانُ قَدْ جَاءَ وَصْفًا وَقَدْ جَاءَ مَصْدَرًا.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ نَافِعٍ بِجَزْمِ النُّونِ الْأُولَى، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. قَالُوا: وَالْفَتْحُ أَجْوَدُ لِكَثْرَةِ نَظَائِرِهَا فِي الْمَصَادِرِ كَالضَّرَبَانِ وَالسَّيَلَانِ وَالْغَلَيَانِ وَالْغَشَيَانِ، وَأَمَّا بِالسُّكُونِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْأَكْثَرِ وَصْفًا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَمِمَّا جَاءَ مَصْدَرًا قَوْلُهُمْ: لَوَيْتُهُ حَقَّهُ لَيَّانًا، وَشَنْآنٌ فِي قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ.

وَأَنْشَدَ لِلْأَحْوَصِ.

وَإِنْ عَابَ فِيهِ ذُو الشَّنْآنِ وَفَنَّدَا

فَقَوْلُهُ: ذُو الشَّنْآنِ عَلَى التَّخْفِيفِ كَقَوْلِهِمْ: إِنِّي ظَمْآنٌ، وَفُلَانٌ ظَمْآنٌ، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قرأ ابن كثير وأبو عمرو أَنْ صَدُّوكُمْ بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ، يَعْنِي لِأَنْ صَدُّوكُمْ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ الِاخْتِيَارُ لِأَنَّ مَعْنَى صَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَنْعُ أَهْلِ مَكَّةَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْعُمْرَةِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ هَذَا الصَّدُّ مُتَقَدِّمًا لَا مَحَالَةَ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الآية.

<<  <  ج: ص:  >  >>