للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِهِ الْمُخَالَفَةُ فَنَقُولُ: ذَلِكَ الْأَمْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْجِسْمِيَّةِ أَوْ حَالًّا فِيهَا أَوْ لَا مَحَلًّا لَهَا وَلَا حَالًّا فِيهَا. وَالْأَوَّلُ:

بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْجِسْمِ صِفَةً قَائِمَةً بِذَاتٍ أُخْرَى وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ إِنْ كَانَ مُتَحَيِّزًا وَمُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ كَانَ مَحَلُّ الْجِسْمِ غَيْرَ الْجِسْمِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ الْحَاصِلُ فِي الْحَيِّزِ حَالًّا فِي مَحَلٍّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحَيَازِ وَالْجِهَاتِ، وَذَلِكَ مَدْفُوعٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ:

الذَّوَاتُ هِيَ الْأَجْسَامُ وَمَا بِهِ قَدْ حَصَلَتِ الْمُخَالَفَةُ هُوَ الصِّفَاتُ وَكُلُّ مَا يَصِحُّ عَلَى الشَّيْءِ صَحَّ عَلَى مِثْلِهِ فَلَمَّا كَانَتِ الذَّوَاتُ مُتَمَاثِلَةً فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يَصِحُّ عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَا بِهِ حَصَلَتِ الْمُخَالَفَةُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْجِسْمِ وَلَا حَالًّا فِيهِ، وَفَسَادُ هَذَا الْقِسْمِ ظَاهِرٌ. فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ مَا يَصِحُّ عَلَى أَحَدِ الْمَثَلَيْنِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَيْضًا عَلَى الْمَثَلِ الثَّانِي. وَإِذَا اسْتَوَتِ الْأَجْسَامُ بِأَسْرِهَا فِي قَبُولِ جَمِيعِ الصِّفَاتِ عَلَى الْبَدَلِ كَانَ اخْتِصَاصُ جِسْمِ الشَّمْسِ لِهَذِهِ الْإِضَاءَةِ وَهَذِهِ الْإِنَارَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، واللَّه أَعْلَمُ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَطْلُوبِ أَنَّ الظُّلْمَةَ شَبِيهَةٌ بِالْعَدَمِ. بَلِ الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَفْهُومٌ عَدَمِيٌّ وَالنُّورُ مَحْضُ الْوُجُودِ. فَإِذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ حَصَلَ الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ فِي قَلْبِ الْكُلِّ فَاسْتَوْلَى النَّوْمُ عَلَيْهِمْ وَصَارُوا كَالْأَمْوَاتِ وَسَكَنَتِ الْمُتَحَرِّكَاتُ وَتَعَطَّلَتِ التَّأْثِيرَاتُ وَرُفِعَتِ التَّفْعِيلَاتُ فَإِذَا وَصَلَ نُورُ الصَّبَاحِ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ فَكَأَنَّهُ نَفَخَ فِي الصُّورِ مَادَّةَ الْحَيَاةِ وَقُوَّةَ الْإِدْرَاكِ فَضَعُفَ النَّوْمُ وَابْتَدَأَتِ الْيَقَظَةُ بِالظُّهُورِ. وَكُلَّمَا كَانَ نُورُ الصَّبَاحِ أَقْوَى وَأَكْمَلَ كَانَ ظُهُورُ قُوَّةِ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ فِي الْحَيَوَانَاتِ أَكْمَلَ. وَمَعْلُومٌ أَنْ أَعْظَمَ نِعَمِ اللَّه عَلَى الْخَلْقِ هُوَ قُوَّةُ الْحَيَاةِ وَالْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ وَلَمَّا كَانَ النُّورُ هُوَ السَّبَبَ الْأَصْلِيَّ لِحُصُولِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَانَ تَأْثِيرُ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ النُّورِ مِنْ أَعْظَمِ أَقْسَامِ النِّعَمِ وَأَجَلِّ أَنْوَاعِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ فَالِقًا لِلْإِصْبَاحِ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى أَجَلَّ أَقْسَامِ الدَّلَائِلِ، وَفِي كَوْنِهِ فَضْلًا وَرَحْمَةً وَإِحْسَانًا مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْخَلْقِ أَجَلَّ الْأَقْسَامِ وَأَشْرَفَ الْأَنْوَاعِ/ فَهَذَا مَا حَضَرَنَا فِي تَقْرِيرِ دَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فالِقُ الْإِصْباحِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ الْحَكَمِ. واللَّه أَعْلَمُ.

وَلْنَخْتِمْ هَذِهِ الدَّلَائِلَ بِخَاتِمَةٍ شَرِيفَةٍ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى فَالِقُ ظُلْمَةِ الْعَدَمِ بِصَبَاحِ التَّكْوِينِ وَالْإِيجَادِ وَفَالِقُ ظُلْمَةِ الْجَمَادِيَّةِ بِصَبَاحِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَالرَّشَادِ، وَفَالِقُ ظُلْمَةِ الْجَهَالَةِ بِصَبَاحِ الْعَقْلِ وَالْإِدْرَاكِ، وَفَالِقُ ظُلُمَاتِ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ بِتَخْلِيصِ النَّفْسِ الْقُدْسِيَّةِ إِلَى صُبْحَةِ عَالَمِ الْأَفْلَاكِ، وَفَالِقُ ظُلُمَاتِ الِاشْتِغَالِ بِعَالَمِ الْمُمْكِنَاتِ بِصَبَاحِ نُورِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ مُدَبِّرِ الْمُحْدَثَاتِ وَالْمُبْدَعَاتِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْإِصْباحِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ اللَّيْثُ: الصُّبْحُ وَالصَّبَاحُ هُمَا أَوَّلُ النَّهَارِ وَهُوَ الْإِصْبَاحُ أَيْضًا. قَالَ تَعَالَى: فالِقُ الْإِصْباحِ يَعْنِي الصُّبْحَ. قَالَ الشَّاعِرُ:

أَفْنَى رِيَاحًا وَبَنِي رِيَاحٍ ... تَنَاسُخُ الْإِمْسَاءِ وَالْإِصْبَاحِ

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِصْباحِ مَصْدَرٌ سُمِّي به الصبح.

<<  <  ج: ص:  >  >>