فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فَلَقَ الصُّبْحَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ تَعَالَى فَلَقَ الظُّلْمَةَ بِالصُّبْحِ فَكَيْفَ الْوَجْهُ فِيهِ؟ فَنَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَالِقَ ظُلْمَةِ الْإِصْبَاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُفُقَ مِنَ الْجَانِبِ الشَّمَالِيِّ وَالْغَرْبِيِّ وَالْجَنُوبِيِّ مَمْلُوءٌ مِنَ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ. وَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ فَكَأَنَّ الْأُفُقَ كَانَ بَحْرًا مَمْلُوءًا مِنَ الظُّلْمَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَقَّ ذَلِكَ الْبَحْرَ الْمُظْلِمَ بِأَنْ أَجْرَى جَدْوَلًا مِنَ النُّورِ فِيهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ فَالِقُ ظُلْمَةِ الْإِصْبَاحِ بِنُورِ الْإِصْبَاحِ وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مَعْلُومًا حَسُنَ الْحَذْفُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا يَشُقُّ بَحْرَ الظُّلْمَةِ عَنْ نُورِ الصُّبْحِ فَكَذَلِكَ يَشُقُّ نُورَ الصُّبْحِ عَنْ بَيَاضِ النَّهَارِ فَقَوْلُهُ: فالِقُ الْإِصْباحِ أَيْ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ بِبَيَاضِ النَّهَارِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ ظُهُورَ النُّورِ فِي الصَّبَاحِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى فَلَقَ تِلْكَ الظُّلْمَةَ فَقَوْلُهُ: فالِقُ الْإِصْباحِ أَيْ مُظْهِرُ الْإِصْبَاحِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ الْإِظْهَارِ هُوَ ذَلِكَ الْفَلْقَ لَا جَرَمَ ذَكَرَ اسْمَ السَّبَبِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُسَبَّبُ. الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَالِقُ هُوَ الْخَالِقُ فَكَانَ الْمَعْنَى خَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وجاعل اللَّيْلَ سَكَنًا فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ. فَأَوَّلُهَا: ظُهُورُ الصَّبَاحِ وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ بمقدار الفهم. وثانيها: قوله وجاعل اللَّيْلَ سَكَنًا وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : السَّكَنُ مَا يَسْكُنُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ وَيَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ اسْتِئْنَاسًا بِهِ وَاسْتِرْوَاحًا إِلَيْهِ مِنْ زَوْجٍ أَوْ حَبِيبٍ، وَمِنْهُ قِيلَ: لِلنَّارِ سَكَنٌ لِأَنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهَا أَلَا تَرَاهُمْ سَمَّوْهَا/ الْمُؤْنِسَةَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّيْلَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ لِأَنَّهُ أَتْعَبَ نَفْسَهُ بِالنَّهَارِ وَاحْتَاجَ إِلَى زَمَانٍ يَسْتَرِيحُ فِيهِ وَذَلِكَ هُوَ اللَّيْلُ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْخَلْقَ يَبْقَوْنَ فِي الْجَنَّةِ فِي أَهْنَأِ عَيْشٍ، وَأَلَذِّ زَمَانٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ لَيْلٌ؟ فَعَلِمْنَا أَنَّ وُجُودَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَيْسَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ اللَّذَّةِ وَالْخَيْرِ فِي الْحَيَاةِ قُلْنَا: كَلَامُنَا فِي أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ مَصَالِحِ هَذَا الْعَالَمِ، أَمَّا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَهَذِهِ الْعَادَاتُ غَيْرُ بَاقِيَةٍ فِيهِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَجَعَلَ اللَّيْلَ عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ، وَالْبَاقُونَ جَاعِلُ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ حُجَّةُ مَنْ قَرَأَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ أَنَّ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ اسْمُ الْفَاعِلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فالِقُ الْحَبِّ وفالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام: ٩٥- ٩٦] وَجَاعِلٌ أَيْضًا اسْمُ الْفَاعِلِ. وَيَجِبُ كَوْنُ الْمَعْطُوفِ مُشَارِكًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَحُجَّةُ مَنْ قَرَأَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مَنْصُوبَانِ وَلَا بد لهذا النصب من عامل، وما ذلك إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ قَوْلُهُ:
وَجَعَلَ بِمَعْنَى وَجَاعِلٌ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً فَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدَّرَ حَرَكَةَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِحِسَابٍ مُعَيَّنٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي قَوْلُهُ:
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُسَ: ٥] وَقَالَ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرحمن: ٥] وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ حَرَكَةَ الشَّمْسِ مَخْصُوصَةً بِمِقْدَارٍ مِنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ بِحَيْثُ تَتِمُّ الدَّوْرَةُ فِي سَنَةٍ، وَقَدَّرَ حَرَكَةَ الْقَمَرِ بِحَيْثُ يُتِمُّ الدَّوْرَةَ فِي شَهْرٍ، وَبِهَذِهِ الْمَقَادِيرِ تَنْتَظِمُ مَصَالِحُ الْعَالَمِ فِي الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَبِسَبَبِهَا يَحْصُلُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ نُضْجِ الثِّمَارِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute