للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أُطْلِقَ لَفْظُ الْجِنِّ عَلَيْهَا، وَأَقُولُ: هَذَا مَذْهَبُ الْمَجُوسِ، وَإِنَّمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ، لِأَنَّ الْمَجُوسَ يُلَقَّبُونَ بِالزَّنَادِقَةِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي زَعَمَ زَرَادِشْتُ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه مُسَمًّى بِالزَّنْدِ وَالْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ يُسَمَّى زَنْدِيٌّ. ثُمَّ عُرِّبَ فَقِيلَ زِنْدِيقٌ. ثُمَّ جُمِعَ فَقِيلَ زَنَادِقَةٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَجُوسَ قَالُوا: كُلُّ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْخَيْرَاتِ فَهُوَ مِنْ يَزْدَانَ وَجَمِيعُ مَا فِيهِ مِنَ الشُّرُورِ فَهُوَ مِنْ أَهْرِمَنْ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِإِبْلِيسَ فِي شَرْعِنَا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ أَهْرِمَنْ مُحْدَثٌ، وَلَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ حُدُوثِهِ أَقْوَالٌ عَجِيبَةٌ، وَالْأَقَلُّونَ مِنْهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ شَرِيكٌ للَّه فِي تَدْبِيرِ هَذَا الْعَالَمِ فَخَيْرَاتُ هَذَا الْعَالَمِ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَشُرُورُهُ مِنْ إِبْلِيسَ فَهَذَا شَرْحُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.

فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: الْقَوْمُ أَثْبَتُوا للَّه شَرِيكًا وَاحِدًا وَهُوَ إِبْلِيسُ، فَكَيْفَ حَكَى اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا للَّه شُرَكَاءَ؟

وَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ عَسْكَرُ اللَّه هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَعَسْكَرُ إِبْلِيسَ هُمُ الشَّيَاطِينُ وَالْمَلَائِكَةُ فِيهِمْ كَثْرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُمْ أَرْوَاحٌ طَاهِرَةٌ مُقَدَّسَةٌ وَهُمْ يُلْهِمُونَ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ بِالْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ. وَالشَّيَاطِينُ أَيْضًا فِيهِمْ كَثْرَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ تُلْقِي الْوَسَاوِسَ الْخَبِيثَةَ إِلَى الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ، واللَّه مَعَ عَسْكَرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُحَارِبُونَ إِبْلِيسَ مَعَ عَسْكَرِهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا للَّه شُرَكَاءَ مِنَ الْجِنِّ فَهَذَا تَفْصِيلُ هَذَا الْقَوْلِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَخَلَقَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ الدَّالِّ عَلَى فَسَادِ كَوْنِ إِبْلِيسَ شَرِيكًا للَّه تَعَالَى فِي مُلْكِهِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا نَقَلْنَا عَنِ الْمَجُوسِ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ/ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ إِبْلِيسَ لَيْسَ بِقَدِيمٍ بَلْ هُوَ مُحْدَثٌ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ فَلَهُ خَالِقٌ وَمُوجِدٌ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهَؤُلَاءِ الْمَجُوسُ يَلْزَمُهُمُ الْقَطْعُ بِأَنَّ خَالِقَ إِبْلِيسَ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ إِبْلِيسُ أَصْلًا لِجَمِيعِ الشُّرُورِ وَالْآفَاتِ وَالْمَفَاسِدِ وَالْقَبَائِحِ، وَالْمَجُوسُ سَلَّمُوا أَنَّ خَالِقَهُ هُوَ اللَّه تَعَالَى، فَحِينَئِذٍ قَدْ سَلَّمُوا أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ هُوَ الْخَالِقُ لِمَا هُوَ أَصْلُ الشُّرُورِ وَالْقَبَائِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا لَا بُدَّ مِنْ إِلَهَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا فَاعِلًا لِلْخَيْرَاتِ، وَالثَّانِي يَكُونُ فَاعِلًا لِلشُّرُورِ لِأَنَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ ثَبَتَ أَنَّ إِلَهَ الْخَيْرِ هُوَ بِعَيْنِهِ الْخَالِقُ لِهَذَا الَّذِي هُوَ الشَّرُّ الْأَعْظَمُ فَقَوْلُهُ تعالى: وَخَلَقَهُمْ إشارة إلى أن تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِهَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينِ عَلَى مَذْهَبِ الْمَجُوسِ، وَإِذَا كَانَ خَالِقًا لَهُمْ فَقَدِ اعْتَرَفُوا بِكَوْنِ إِلَهِ الْخَيْرِ فَاعِلًا لِأَعْظَمِ الشُّرُورِ، وَإِذَا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ وَسَقَطَ قَوْلُهُمْ: لَا بُدَّ لِلْخَيْرَاتِ مِنْ إِلَهٍ، وَلِلشُّرُورِ مِنْ إِلَهٍ آخَرَ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي اسْتِنْبَاطِ الْحُجَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَخَلَقَهُمْ مَا بَيَّنَّا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفِي كِتَابِ «الْأَرْبَعِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ» أَنَّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، يُنْتِجُ أَنَّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الْحَقِّ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَيَلْزَمُ الْقَطْعُ بِأَنَّ إِبْلِيسَ وَجَمِيعَ جُنُودِهِ يَكُونُونَ مَوْصُوفِينَ بِالْحُدُوثِ. وَحُصُولِ الْوُجُودِ بعدم الْعَدَمِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْإِلْزَامُ الْمَذْكُورُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، فَهَذَا تَقْرِيرُ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وباللَّه التَّوْفِيقُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ مَعْنَاهُ: وَجَعَلُوا الْجِنَّ شركاء للَّه.

<<  <  ج: ص:  >  >>