للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّقْدِيمِ؟

قُلْنَا: قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ الَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ أَعَنَى، فَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّقْدِيمِ اسْتِعْظَامُ أَنْ يُتَّخَذَ للَّه شَرِيكٌ سَوَاءٌ كَانَ مَلَكًا أَوْ جِنِّيًّا أَوْ إِنْسِيًّا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَقْدِيمِ اسْمِ اللَّه عَلَى الشُّرَكَاءِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قُرِئَ الْجِنَّ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ وَالْجَرِّ، أَمَّا وَجْهُ النَّصْبِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: شُرَكاءَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ، فَلَوْ قِيلَ: وَجَعَلُوا للَّه الْجِنَّ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مَفْهُومًا بَلِ الْأَوْلَى جَعْلُهُ عَطْفُ بَيَانٍ. أَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِالرَّفْعِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ فَهَذَا الْكَلَامُ لَوْ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ لَصَحَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنُّ وَالْأِنْسُ وَالْحَجَرُ وَالْوَثَنُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَمَنْ أُولَئِكَ الشُّرَكَاءُ؟ فَقِيلَ: الْجِنُّ. وَأَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِالْجَرِّ فَعَلَى الْإِضَافَةِ الَّتِي هِيَ لِلتَّبْيِينِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الشِّرْكَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَالْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ حِكَايَةُ قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُ لِلْعَالَمِ إِلَهَيْنِ أَحَدُهُمَا فَاعِلُ الْخَيْرِ وَالثَّانِي فَاعِلُ الشَّرِّ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْجِنِّ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنَّمَا حَسُنَ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ لَفْظَ الْجِنِّ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْتِتَارِ، وَالْمَلَائِكَةُ مُسْتَتِرُونَ عَنِ الْأَعْيُنِ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ كَيْفَ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِمُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه؟ قَوْلُهُمْ بِجَعْلِ الْمَلَائِكَةِ شُرَكَاءَ للَّه حَتَّى يَتِمَّ انْطِبَاقُ لَفْظِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَعَلَّهُ يُقَالُ إِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ مَعَ أَنَّهَا بَنَاتُ اللَّه فَهِيَ مُدَبِّرَةٌ لِأَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الشِّرْكُ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ الْمُرَادَ: أَنَّ الْجِنَّ دَعُوا الْكُفَّارَ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَإِلَى الْقَوْلِ بِالشِّرْكِ، فَقَبِلُوا مِنَ الْجِنِّ هَذَا الْقَوْلَ وَأَطَاعُوهُمْ، فَصَارُوا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَائِلِينَ: يَكُونُ الْجِنُّ شُرَكَاءَ للَّه تَعَالَى. وَأَقُولُ: الْحَقُّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَالْقَوْلَانِ الْأَخِيرَانِ ضَعِيفَانِ جَدًّا. أما تفسير هذا الشرك يقول الْعَرَبِ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه، فَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ قَدْ حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ:

١٠٠] فَالْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ الْبَنَاتِ للَّه لَيْسَ إِلَّا قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه، فَلَوْ فَسَّرْنَا قَوْلَهُ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ بِهَذَا الْمَعْنَى يَلْزَمُ مِنْهُ التَّكْرَارُ فِي الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي إِبْطَالِ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْعَرَبَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه، وَإِثْبَاتُ الْوَلَدِ للَّه غَيْرٌ، وَإِثْبَاتُ الشَّرِيكِ لَهُ غَيْرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: ٣، ٤] وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَيْنَ الْآخَرِ لَكَانَ هَذَا التَّفْصِيلُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَبَثًا.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِيَزْدَانَ وَأَهْرِمَنْ يُصَرِّحُونَ بِإِثْبَاتِ شَرِيكٍ لِإِلَهِ الْعَالَمِ فِي تَدْبِيرِ هَذَا الْعَالَمِ، فَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنْهُ وَحَمْلُهُ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَنَاتِ صَرْفٌ لِلَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الشِّرْكَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ قَبِلُوا قَوْلَ الْجِنِّ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْقَوْلِ بِالشِّرْكِ لَا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ بِكَوْنِهِ شَرِيكًا للَّه لَا بِحَسَبِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَلَا بِحَسَبِ مَجَازِهِ، وَأَيْضًا فَلَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَزِمَ وُقُوعُ التَّكْرِيرِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، لأن الرد

<<  <  ج: ص:  >  >>