للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُقَابِلَهُمْ فَيَكُونَ حَالُهُمْ مَعَهُ بِخِلَافِ أَهْلِ النَّارِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ جِسْمٌ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ وَالْحِجَابُ.

وَالْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنْ قُلْتُمْ إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَهُ فِي كُلِّ حَالٍ حَتَّى عِنْدَ الْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، أَوْ يَرَوْنَهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّهُ تَعَالَى مَرَّةً يَقْرُبُ وَأُخْرَى يَبْعُدُ. وَأَيْضًا فَرُؤْيَتُهُ أَعْظَمُ اللَّذَّاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا مُشْتَهِينَ لِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ أَبَدًا. فَإِذَا لَمْ يَرَوْهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَقَعُوا فِي الْغَمِّ وَالْحُزْنِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِصِفَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا ذَكَرَهُ فِي «كِتَابِ التَّفْسِيرِ» .

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ.

أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَيُقَالُ لَهُ هَبْ أَنَّ رُؤْيَةَ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ عِنْدَ حُصُولِ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ وَحُضُورِ الْمَرْئِيِّ وَحُصُولِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ وَاجِبَةٌ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةُ اللَّه تَعَالَى عِنْدَ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ وَعِنْدَ كَوْنِ الْمَرْئِيِّ بِحَيْثُ يَصِحُّ رُؤْيَتُهُ وَاجِبَةً؟ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ ذَاتَهُ تَعَالَى مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ الذَّوَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمٍ فِي شَيْءٍ ثُبُوتُ مِثْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِيمَا يُخَالِفُهُ، وَالْعَجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ عَوَّلُوا عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ وَهُمْ يَدَّعُونَ الْفِطْنَةَ التَّامَّةَ وَالْكِيَاسَةَ الشَّدِيدَةَ وَلَمْ يَتَنَبَّهْ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِهَذَا السُّؤَالِ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ رَكَاكَةُ هَذَا الْكَلَامِ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَيُقَالُ لَهُ إِنَّ النِّزَاعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَقَعَ فِي أَنَّ الْمَوْجُودَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ وَجِهَةٍ هَلْ يَجُوزُ رُؤْيَتُهُ أَمْ لَا؟ فَإِمَّا أَنْ تَدَّعُوا أَنَّ الْعِلْمَ بِامْتِنَاعِ رُؤْيَةِ هَذَا الْمَوْجُودِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عِلْمٌ بَدِيهِيٌّ أَوْ تَقُولُوا إِنَّهُ عِلْمٌ اسْتِدْلَالِيٌّ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهِ بَدِيهِيًّا لَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ. وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعِلْمُ بَدِيهِيًّا كَانَ الِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ عَبَثًا فَاتْرُكُوا الِاسْتِدْلَالَ وَاكْتَفُوا بِادِّعَاءِ الْبَدِيهَةِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَنَقُولُ: قَوْلُكُمْ الْمَرْئِيُّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا أَوْ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ إِعَادَةٌ لَعَيْنِ الدَّعْوَى، لِأَنَّ حَاصِلَ الْكَلَامِ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَكُونُ مُقَابِلًا وَلَا فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ لَا تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ، أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مرثيا فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا أَوْ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْكَلَامِ إِلَّا إِعَادَةُ الدَّعْوَى.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَيُقَالُ لَهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَهُ وَأَهْلَ النَّارِ لَا يَرَوْنَهُ؟ لَا لِأَجْلِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ كَمَا ذَكَرْتَ، بَلْ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الرُّؤْيَةَ فِي عُيُونِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا يَخْلُقُهَا/ فِي عُيُونِ أَهْلِ النَّارِ فَلَوْ رَجَعْتَ فِي إِبْطَالِ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ تَجْوِيزَهُ يُفْضِي إِلَى تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا بُوقَاتٌ وَطَبْلَاتٌ وَلَا نَرَاهَا وَلَا نَسْمَعُهَا، كَانَ هَذَا رُجُوعًا إِلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى، وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهَا.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فَيُقَالُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّه تَعَالَى فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. أَمَّا قَوْلُهُ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى مَرَّةً يَقْرُبُ وَمَرَّةً يَبْعُدُ، فَيُقَالُ هَذَا عَوْدٌ إِلَى أَنَّ الْإِبْصَارَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ عَوْدٌ إِلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ، وَقَوْلُهُ ثَانِيًا: الرُّؤْيَةُ أَعْظَمُ اللَّذَّاتِ، فَيُقَالُ لَهُ إِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ يَشْتَهُونَهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ سَائِرَ لَذَّاتِ الْجَنَّةِ وَمَنَافِعِهَا طَيِّبَةٌ وَلَذِيذَةٌ ثُمَّ إِنَّهَا تَحْصُلُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَكَذَا هَاهُنَا. فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذَا الْبَابِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَقْرِيرِ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّه تَعَالَى وَنَحْنُ نَعُدُّهَا هُنَا عَدًّا، وَنُحِيلُ تَقْرِيرَهَا إِلَى الْمَوَاضِعِ اللَّائِقَةِ بِهَا. فَالْأَوَّلُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ الرُّؤْيَةَ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ على

<<  <  ج: ص:  >  >>