الْحَدِيثُ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ هُمُ الَّذِينَ يَنْسِبُونَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَضَاءً وَقَدَرًا وَخَلْقًا لِأَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ هُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلَّهِ أَيُّ ذَنْبٍ لَنَا حَتَّى تُعَاقِبَنَا وَأَنْتَ الَّذِي خَلَقْتَهُ فِينَا وَأَرَدْتَهُ مِنَّا وَقَضَيْتَهُ عَلَيْنَا وَلَمْ تَخْلُقْنَا إِلَّا لَهُ وَمَا يَسَّرْتَ لَنَا غَيْرَهُ فَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ اللَّهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحُجَّةِ أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ مَكَّنَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ وَإِنَّمَا أَتَى الْعَبْدُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَكَلَامُهُ مُوَافِقٌ لِمَا يُعَامَلُ بِهِ مِنْ إِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ فَلَا يَكُونُونَ خُصَمَاءَ اللَّهِ بَلْ يَكُونُونَ مُنْقَادِينَ لِلَّهِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَهُوَ عَجِيبٌ جِدًّا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ يَبْعُدُ مِنْكَ أَنَّكَ مَا عَرَفْتَ مِنْ مَذَاهِبِ خُصُومِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ وَلَا اسْتِحْقَاقٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَأَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الرَّبُّ فِي الْعَبْدِ فَهُوَ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ عَلَى الرَّبِّ اعْتِرَاضٌ وَلَا مُنَاظَرَةٌ فَكَيْفَ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ الَّذِي هَذَا دِينُهُ وَاعْتِقَادُهُ خَصْمًا لِلَّهِ تَعَالَى. أَمَّا الَّذِينَ يَكُونُونَ خُصَمَاءَ لِلَّهِ فَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُوبَ الثَّوَابِ وَالْعِوَضِ وَيَقُولُ لَوْ لَمْ تُعْطِنِي ذَلِكَ لَخَرَجْتَ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَصِرْتَ مَعْزُولًا عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِرْتَ مِنْ جُمْلَةِ السُّفَهَاءِ فَهَذَا الَّذِي مَذْهَبُهُ وَاعْتِقَادُهُ ذَلِكَ هُوَ الْخَصْمُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي أَنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى الْكُفْرِ سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ إِنَّهُ فِي آخِرِ زَمَنِ حَيَاتِهِ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَنِ الْقَلْبِ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَعْطَاهُ النِّعَمَ الْفَائِقَةَ وَالدَّرَجَاتِ الزَّائِدَةَ أَلْفَ أَلْفِ سَنَةٍ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ تِلْكَ النِّعَمَ عَنْهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً فَذَلِكَ الْعَبْدُ يَقُولُ أَيُّهَا الْإِلَهُ إِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَتْرُكَ ذَلِكَ لَحْظَةً وَاحِدَةً فَإِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً صِرْتَ مَعْزُولًا عَنِ الْإِلَهِيَّةِ/ وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِقْدَامَ ذَلِكَ الْعَبْدِ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ لَحْظَةً وَاحِدَةً أَوْجَبَ عَلَى الْإِلَهِ إِيصَالَ تِلْكَ النِّعَمِ مُدَّةً لَا آخِرَ لَهَا وَلَا طَرِيقَ لَهُ الْبَتَّةَ إِلَى الْخَلَاصِ عَنْ هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَهَذَا هُوَ الْخُصُومَةُ. أَمَّا مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَا يُوصَلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الثَّوَابِ فَهُوَ تَفَضُّلٌ وَإِحْسَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا لَا يَكُونُ خَصْمًا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْخُصُومَةِ مَا حُكِيَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ لَمَّا فَارَقَ مَجْلِسَ أُسْتَاذِهِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَتَرَكَ مَذْهَبَهُ وَكَثُرَ اعْتِرَاضُهُ عَلَى أَقَاوِيلِهِ عَظُمَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا فَاتَّفَقَ أَنَّ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ عَقَدَ الْجُبَّائِيُّ مَجْلِسَ التَّذْكِيرِ وَحَضَرَ عِنْدَهُ عَالَمٌ مِنَ النَّاسِ وَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ إِلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَجَلَسَ فِي بَعْضِ الْجَوَانِبِ مُخْتَفِيًا عَنِ الْجُبَّائِيِّ وَقَالَ لِبَعْضِ مَنْ حَضَرَ هُنَاكَ مِنَ الْعَجَائِزِ إِنِّي أُعَلِّمُكِ مَسْأَلَةً فَاذْكُرِيهَا لِهَذَا الشَّيْخِ قُولِي لَهُ كَانَ لِي ثَلَاثَةٌ مِنَ الْبَنِينَ وَاحِدٌ كَانَ فِي غَايَةِ الدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالثَّانِي كَانَ فِي غَايَةِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَالثَّالِثُ كَانَ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغْ فَمَاتُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ فَأَخْبِرْنِي أَيُّهَا الشَّيْخُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ. فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ أَمَّا الزَّاهِدُ فَفِي دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَفِي دَرَكَاتِ النَّارِ وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَمِنْ أَهْلِ السَّلَامَةِ. قَالَ قُولِي لَهُ لَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا أَخُوهُ الزَّاهِدُ هَلْ يُمْكِنُ مِنْهُ. فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ لَا لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَهُ إِنَّمَا وَصَلَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَأَنْتَ فَلَيْسَ مَعَكَ ذَاكَ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ قُولِي لَهُ لَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ حِينَئِذٍ يَقُولُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ لَيْسَ الذَّنْبُ لِي لِأَنَّكَ أَمَتَّنِي قَبْلَ الْبُلُوغِ وَلَوْ أَمْهَلْتَنِي فَرُبَّمَا زِدْتُ عَلَى أَخِي الزَّاهِدِ فِي الزُّهْدِ وَالدِّينِ. فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ يَقُولُ اللَّهُ لَهُ عَلِمْتُ أَنَّكَ لَوْ عِشْتَ لَطَغَيْتَ وَكَفَرْتَ وَكُنْتَ تَسْتَوْجِبُ النَّارَ فَقَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ رَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ وَأَمَتُّكَ حَتَّى تَنْجُوَ مِنَ الْعِقَابِ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ قُولِي لَهُ لَوْ أَنَّ الْأَخَ الْكَافِرَ الْفَاسِقَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ فَقَالَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَيَا أَحْكَمَ الْحَاكِمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ ذَلِكَ الْأَخِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute