وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ وَمِنْ رَحْمَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ تَرْتِيبُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَنَفْتَقِرُ هَاهُنَا إِلَى بَيَانِ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِلَى بَيَانِ كَوْنِهِ تَعَالَى غَنِيًّا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحْتَاجًا لَكَانَ مُسْتَكْمِلًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ وَالْمُسْتَكْمِلُ بِغَيْرِهِ نَاقِصٌ بِذَاتِهِ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَأَيْضًا فَكُلُّ إيجاب او سلب يفرض فان كان ذَاتُهُ كَافِيَةً فِي تَحَقُّقِهِ وَجَبَ دَوَامُ ذَلِكَ الْإِيجَابِ أَوْ ذَلِكَ السَّلْبِ بِدَوَامِ ذَاتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَافِيَةً فَحِينَئِذٍ يَتَوَقَّفُ حُصُولُ تِلْكَ الْحَالَةِ وَعَدَمُهَا عَلَى وُجُودِ سَبَبٍ مُنْفَصِلٍ أَوْ عَدَمِهِ فَذَاتُهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ الثُّبُوتِ وَالْعَدَمِ وَهُمَا مَوْقُوفَانِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ الْمُنْفَصِلِ وَعَدَمِهِ وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَى الشَّيْءِ مَوْقُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ ذَاتِهِ مَوْقُوفَةً عَلَى الْغَيْرِ وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْغَيْرِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ فَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَهُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ يُفِيدُ الْحَصْرَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا غَنِيَّ إِلَّا هُوَ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَمَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ مُحْتَاجٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا غَنِيَّ إِلَّا هُوَ فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ صِحَّةُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ وَأَمَّا إِثْبَاتُ أَنَّهُ: ذُو الرَّحْمَةِ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي وُجُودِ خَيْرَاتٍ وَسَعَادَاتٍ وَلَذَّاتٍ وَرَاحَاتٍ إِمَّا بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الْجِسْمَانِيَّةِ وَإِمَّا بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الرُّوحَانِيَّةِ فَثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا يدخل في الوجود بإيجاده وتكوينيه وَتَخْلِيقِهِ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالرَّاحَاتِ وَالْكَرَامَاتِ وَالسَّعَادَاتِ فَهُوَ مِنَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَبِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ ثُمَّ إِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ غَالِبٌ عَلَى الشَّرِّ فَإِنَّ الْمَرِيضَ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَالصَّحِيحُ أَكْثَرُ مِنْهُ وَالْجَائِعُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَالشَّبْعَانُ أَكْثَرُ مِنْهُ وَالْأَعْمَى وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا إِلَّا أَنَّ الْبَصِيرَ أَكْثَرُ مِنْهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِحُصُولِ الرَّحْمَةِ وَالرَّاحَةِ وَثَبَتَ أَنَّ الْخَيْرَ أَغْلَبُ مِنَ الشَّرِّ وَالْأَلَمِ وَالْآفَةِ وَثَبَتَ أَنَّ مَبْدَأَ تِلْكَ الرَّاحَاتِ وَالْخَيْرَاتِ بِأَسْرِهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ: ذُو الرَّحْمَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ يُفِيدُ الْحَصْرَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا رَحْمَةَ إِلَّا مِنْهُ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ أَوْ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ فَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مِنْهُ وَالرَّحْمَةُ دَاخِلَةٌ فِيمَا سِوَاهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا رَحْمَةَ إِلَّا مِنَ الْحَقِّ فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ صِحَّةُ هَذَا الْحَصْرِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا غَنِيَّ إِلَّا هُوَ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا رَحِيمَ إِلَّا هُوَ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ يُمْكِنُنَا إِنْكَارُ رَحْمَةِ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ وَالْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّهَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ مِنَ اللَّهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى أَلْقَى فِي قَلْبِ هَذَا الرَّحِيمِ دَاعِيَةَ الرَّحْمَةِ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الرَّحْمَةِ فَلَمَّا كَانَ مُوجِدُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ هُوَ اللَّهُ كَانَ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ شَدِيدَ الْغَضَبِ عَلَى إِنْسَانٍ قَاسِي الْقَلْبِ عَلَيْهِ ثم ينقلب رؤوفا رَحِيمًا عَطُوفًا فَانْقِلَابُهُ مِنَ الْحَالَةِ الْأُولَى إِلَى الثَّانِيَةِ لَيْسَ إِلَّا بِانْقِلَابِ تِلْكَ الدَّوَاعِي فَثَبَتَ أَنَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْبُرْهَانِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ وَبِالْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ [الْأَنْعَامِ: ١١٠] فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا رَحْمَةَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ.
وَالثَّانِي: هَبْ أَنَّ ذَلِكَ الرَّحِيمَ اعطى الطعام والثواب وَالذَّهَبَ وَلَكِنْ لَا صِحَّةَ لِلْمِزَاجِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَإِلَّا فَكَيْفَ الِانْتِفَاعُ؟ فَالَّذِي أَعْطَى صِحَّةَ الْمِزَاجِ وَالْقُدْرَةَ وَالْمُكْنَةَ هُوَ الرَّحِيمُ فِي الْحَقِيقَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute