كُلَّ مَنْ أَعْطَى غَيْرَهُ شَيْئًا فَهُوَ إِنَّمَا يُعْطِي لِطَلَبِ عِوَضٍ وَهُوَ إِمَّا الثَّنَاءُ فِي الدُّنْيَا أَوِ الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ أَوْ دَفْعُ الرِّقَّةِ الْجِنْسِيَّةِ عَنِ الْقَلْبِ وَهُوَ تَعَالَى يُعْطِي لَا لِغَرَضٍ أَصْلًا فَكَانَ تَعَالَى هُوَ الرَّحِيمُ الْكَرِيمُ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ صِحَّةُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا غَنِيَّ وَلَا رَحِيمَ إِلَّا هُوَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْكُلِّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَكْمِلُ بِطَاعَاتِ الْمُطِيعِينَ وَلَا يَنْتَقِصُ بِمَعَاصِي الْمُذْنِبِينَ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ ثَبَتَ أَنَّهُ مَا رَتَّبَ الْعَذَابَ عَلَى الذُّنُوبِ وَلَا الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَاتِ إِلَّا لِأَجْلِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْكَرَمِ وَالْجُودِ وَالْإِحْسَانِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: ٧] فَهَذَا الْبَيَانُ الْإِجْمَالِيُّ كَافٍ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا تَفْصِيلُ تِلْكَ الْحَالَةِ وَشَرْحُهَا عَلَى الْبَيَانِ التَّامِّ فَمِمَّا لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ عَادِلًا مُنَزَّهًا عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ وَعَلَى كَوْنِهِ رَحِيمًا مُحْسِنًا بِعِبَادِهِ. أَمَّا الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ فَقَالَ: تَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِقُبْحِ الْقَبَائِحِ وَعَالَمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَعَالَى عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَتَقْرِيرُهَا إِنَّمَا يَتِمُّ بِمَجْمُوعِ مُقَدِّمَاتٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ فِي الْحَوَادِثِ/ مَا يَكُونُ قَبِيحًا نَحْوَ: الظُّلْمُ وَالسَّفَهُ وَالْكَذِبُ وَالْغِيبَةُ: وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ لِغَايَةِ ظُهُورِهَا. وَثَانِيهَا: كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِالْمَعْلُومَاتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الانعام: ١٣٢] وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ تَعَالَى غَنِيًّا عَنِ الْحَاجَاتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ وَإِذَا ثَبَتَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الثَّلَاثَةِ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِقُبْحِ الْقَبَائِحِ وَعَالِمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهَا فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا امْتَنَعَ كَوْنُهُ فَاعِلًا لَهَا لِأَنَّ الْمُقْدِمَ عَلَى فِعْلِ الْقَبِيحِ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إِمَّا لِجَهْلِهِ بِكَوْنِهِ قَبِيحًا وَإِمَّا لِاحْتِيَاجِهِ فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْكُلِّ امْتَنَعَ كَوْنُهُ جَاهِلًا بِقُبْحِ الْقَبَائِحِ وَإِذَا كَانَ غَنِيًّا عَنِ الْكُلِّ امْتَنَعَ كَوْنُهُ مُحْتَاجًا إِلَى فِعْلِ الْقَبَائِحِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ الْقَبَائِحِ مُتَعَالٍ عَنْهَا فَحِينَئِذٍ يُقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَلَمَّا كَلَّفَ عَبِيدَهُ الْأَفْعَالَ الشَّاقَّةَ وَجَبَ أَنْ يُثِيبَهُمْ عَلَيْهَا وَلَمَّا رَتَّبَ الْعِقَابَ وَالْعَذَابَ عَلَى فِعْلِ الْمَعَاصِي وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِيهَا فَبِهَذَا الطَّرِيقِ ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَادِلًا فِي الْكُلِّ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَبْ أَنَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ انْتَفَى الظُّلْمُ عَنْهُ تَعَالَى فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْلِيفِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّكْلِيفَ إِحْسَانٌ وَرَحْمَةٌ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي «كُتُبِ الْكَلَامِ» فَقَوْلُهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَقَامِ الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ: ذُو الرَّحْمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَقَامِ الثَّانِي فَهَذَا تَقْرِيرُ الدَّلَائِلِ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا طَوَائِفُ الْعُقَلَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ.
وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ الْكُلَّ لَا يُحَاوِلُونَ إِلَّا التَّقْدِيسَ وَالتَّعْظِيمَ وَسَمِعْتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ الْوَالِدَ ضِيَاءَ الدِّينِ عُمَرَ بْنَ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ بْنَ نَاصِرٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: نَظَرَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ فِي جَانِبِ الْقُدْرَةِ وَنَفَاذِ الْمَشِيئَةِ وَنَظَرَ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ فِي جَانِبِ الْعَدْلِ وَالْبَرَاءَةِ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي فَإِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَصِفِ اللَّهَ إِلَّا بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّنْزِيهِ وَلَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ أَخْطَأَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَصَابَ وَرَجَاءُ الْكُلِّ مُتَعَلِّقٌ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute