الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ عُقُولًا كَامِلَةً وَأَفْهَامًا وَافِيَةً وَآذَانًا سَامِعَةً وَعُيُونًا بَاصِرَةً وَأَقْدَرَكُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَأَزَالَ الْأَعْذَارَ وَالْمَوَانِعَ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْكُمْ فَإِنْ شِئْتُمْ ذَهَبْتُمْ إِلَى عَمَلِ الْخَيْرَاتِ وَإِنْ شِئْتُمْ إِلَى عَمَلِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ وَالْمُكْنَةُ مَعْلُومَةُ الثُّبُوتِ بِالضَّرُورَةِ وَزَوَالُ الْمَوَانِعِ وَالْعَوَائِقِ مَعْلُومُ الثُّبُوتِ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ ادِّعَاؤُكُمْ أَنَّكُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ دَعْوَى بَاطِلَةً فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَالِغَةٌ! بَلْ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَيْكُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: لَوْ كَانَتْ أَفْعَالُنَا وَاقِعَةً عَلَى خِلَافِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكُنَّا قَدْ غَلَبْنَا اللَّهَ وَقَهَرْنَاهُ وَأَتَيْنَا بِالْفِعْلِ عَلَى مُضَادَّتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُ عَاجِزًا ضَعِيفًا وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ إِلَهًا.
فَأَجَابَ تَعَالَى عَنْهُ: بِأَنَّ الْعَجْزَ وَالضَّعْفَ إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا لَمْ أَكُنْ قَادِرًا عَلَى حَمْلِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْإِلْجَاءِ وَأَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا أَنِّي لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْإِلْجَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْحِكْمَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنَ التَّكْلِيفِ فَثَبَتَ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنَّ الَّذِي يَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّا لَوْ أَتَيْنَا بِعَمَلٍ عَلَى خِلَافِ مَشِيئَةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ تَعَالَى عَاجِزًا ضَعِيفًا كَلَامٌ بَاطِلٌ فَهَذَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُذْكَرَ فِي تَمَسُّكِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْجَوَابُ الْمُعْتَمَدَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا وَمَذْهَبِنَا وَنَقَلْنَا فِي كُلِّ آيَةٍ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ وَأَجَبْنَا عَنْهَا بِأَجْوِبَةٍ وَاضِحَةٍ قَوِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْتُمْ لَوَقَعَ التَّنَاقُضُ الصَّرِيحُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الطَّعْنِ فِيهِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا لَمَّا كَانَ الْكُلُّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ كَانَ التَّكْلِيفُ عَبَثًا فَكَانَتْ دَعْوَى الْأَنْبِيَاءِ بَاطِلَةً وَنُبُوَّتُهُمْ وَرِسَالَتُهُمْ بَاطِلَةً ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْتَمَسُّكَ بِهَذَا الطَّرِيقِ فِي إِبْطَالِ النُّبُوَّةِ بَاطِلٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِلَهٌ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ فِي فِعْلِهِ فَهُوَ تَعَالَى يَشَاءُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَمَعَ هَذَا فَيَبْعَثُ إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءَ وَيَأْمُرُهُ بِالْإِيمَانِ وَوُرُودُ الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ الْإِرَادَةِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ.
فَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِبْطَالِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ فَاسِدٌ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْمَشِيئَةِ لِلَّهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ دَفْعُ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَقَطْ سَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِالْكُلِّيَّةِ وَجَمِيعُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فِي التَّقْبِيحِ وَالتَّهْجِينِ عَائِدٌ إِلَى تَمَسُّكِكُمْ بِثُبُوتِ الْمَشِيئَةِ لِلَّهِ عَلَى دَفْعِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَيَكُونُ الْحَاصِلُ: أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بَاطِلٌ وَلَيْسَ فِيهِ البتة ما يدل على ان القول بالمشية بَاطِلٌ.
فَإِنْ قَالُوا: هَذَا الْعُذْرُ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذْ قَرَأْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: كَذلِكَ كَذَّبَ بِالتَّشْدِيدِ وَأَمَّا إِذَا قَرَأْنَاهُ بِالتَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ هَذَا الْعُذْرُ بِالْكُلِّيَّةِ فَنَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّا نَمْنَعُ صِحَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا: فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى قَوْلِهِمْ لَوَقَعَ التَّنَاقُضُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute