وَلَخَرَجَ الْقُرْآنُ عَنْ كَوْنِهِ كَلَامًا لِلَّهِ تَعَالَى وَيَنْدَفِعُ هَذَا التَّنَاقُضُ/ بِأَنْ لَا تُقْبَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ الثَّانِي: سَلَّمْنَا صِحَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَكِنَّا نَحْمِلُهَا عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَذَبُوا فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ أَفْعَالِ الْعِبَادِ سُقُوطُ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَبُطْلَانُ دَعْوَتِهِمْ وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَبْقَ لِلْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ تَمَسُّكٌ الْبَتَّةَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعَانَنَا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ هَذِهِ الْعُهْدَةِ الْقَوِيَّةِ وَمِمَّا يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَهَابِ بَصَرِهِ مَا تَقُولُ فِيمَنْ يَقُولُ: لَا قَدَرَ فَقَالَ إِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَتَيْتُ عَلَيْهِ وَيْلَهُ أَمَا يَقْرَأُ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: ٤٩] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: ١٢] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ اكْتُبِ الْقَدَرَ فَجَرَى بِمَا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ
وَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: «الْمُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: زَعَمَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ عَطْفَ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ فِي الْفِعْلِ قَبِيحٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ:
قُمْتُ وَزَيْدٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ أَصْلٌ وَالْمَعْطُوفَ فَرْعٌ وَالْمُضْمَرَ ضَعِيفٌ وَالْمُظْهَرَ قَوِيٌّ وَجَعْلُ الْقَوِيِّ فَرْعًا لِلضَّعِيفِ لَا يَجُوزُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَنَقُولُ: إِنْ جَاءَ الْكَلَامُ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ وَجَبَ تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ فَنَقُولُ قُمْتُ أَنَا وَزَيْدٌ وَإِنْ جَاءَ فِي جَانِبِ النَّفْيِ قُلْتَ مَا قُمْتُ وَلَا زَيْدٌ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا فَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَلا آباؤُنا عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مَا أَشْرَكْنا إِلَّا أَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا كَلِمَةُ لَا فَلَا جَرَمَ حَسُنَ هَذَا الْعَطْفُ. قَالَ فِي جَامِعِ الْأَصْفَهَانِيِّ: إِنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنِ اللَّفْظَةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلضَّمِيرِ حَتَّى يَحْسُنَ الْعَطْفُ وَيَنْدَفِعَ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ مِنْ عَطْفِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا قُلْنَا: (مَا أَشْرَكْنَا نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا) حَتَّى تَكُونَ كَلِمَةُ (لَا) مُقَدَّمَةً عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ. أَمَّا هَاهُنَا حَرْفُ الْعَطْفِ مُقَدَّمٌ عَلَى كَلِمَةِ (لَا) وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ كَلِمَةَ (لَا) لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى قَوْلِهِ: آباؤُنا كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا إِضْمَارَ فِعْلٍ هُنَاكَ لِأَنَّ صَرْفَ النَّفْيِ إِلَى ذَوَاتِ الْآبَاءِ مُحَالٌ بَلْ يَجِبُ صَرْفُ هَذَا النَّفْيِ إِلَى فِعْلٍ يَصْدُرُ مِنْهُمْ وَذَلِكَ هُوَ الْإِشْرَاكُ فَكَانَ التَّقْدِيرُ: مَا أَشْرَكْنَا وَلَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْإِشْكَالُ زَائِلٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلِهِمُ الْكُلُّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ فَكَلِمَةُ «لَوْ» فِي اللُّغَةِ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ وَمَا هَدَاهُمْ أَيْضًا. وَتَقْرِيرُهُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ قُدْرَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ إِنْ لَمْ تَكُنْ قُدْرَةً عَلَى الْإِيمَانِ فَاللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مَا أَقْدَرَهُ عَلَى الْإِيمَانِ فَلَوْ شَاءَ الْإِيمَانَ مِنْهُ فَقَدْ شَاءَ الْفِعْلَ/ مِنْ غَيْرِ قُدْرَةٍ عَلَى الْفِعْلِ وَذَلِكَ مُحَالٌ وَمَشِيئَةُ الْمُحَالِ مُحَالٌ وَإِنْ كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْكُفْرِ قُدْرَةً عَلَى الْإِيمَانِ تَوَقَّفَ رُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِيَةِ الْمُرَجِّحَةِ.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ فَقَدْ حَصَلَتِ الدَّاعِيَةُ الْمُرَجِّحَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَمَجْمُوعُهُمَا مُوجِبٌ لِلْفِعْلِ فَحَيْثُ لَمْ يَحْصُلِ الْفِعْلُ عَلِمْنَا أَنَّ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ لَمْ تَحْصُلْ وَإِذَا لَمْ تَحْصُلِ امْتَنَعَ مِنْهُ فِعْلُ الْإِيمَانِ وَإِذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute