للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ دَرَجَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ فَاللَّهُ تَعَالَى أَزَالَ الْحَسَدَ عَنْ قُلُوبِهِمْ حَتَّى أَنَّ صَاحِبَ الدَّرَجَةِ النَّازِلَةِ لَا يَحْسُدُ صَاحِبَ الدَّرَجَةِ الْكَامِلَةِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :

هَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَكُونَ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَبَرِّي بَعْضِ أَهْلِ النَّارِ مِنْ بَعْضٍ وَلَعْنِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لِيُعْلَمَ أَنَّ حَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا مُفَارِقَةٌ لِحَالِ أَهْلِ النَّارِ.

فَإِنْ قَالُوا: كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُشَاهِدَ الْإِنْسَانُ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ وَالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةَ وَيَرَى نَفْسَهُ مَحْرُومًا عَنْهَا عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِهَا ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَمِيلُ طَبْعُهُ إِلَيْهَا وَلَا يَغْتَمُّ بِسَبَبِ الْحِرْمَانِ عَنْهَا فَإِنْ عُقِلَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يُعْقَلُ أَيْضًا أَنْ يُعِيدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَخْلُقَ فِيهِمْ شَهْوَةَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْوِقَاعِ وَيُغْنِيَهُمْ عَنْهَا؟

قُلْنَا: الْكُلُّ مُمْكِنٌ وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ بِإِزَالَةِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ عَنِ الْقُلُوبِ وَمَا وَعَدَ بِإِزَالَةِ شَهْوَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَنِ النُّفُوسِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا خَلَّصَهُمْ مِنْ رِبْقَةِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْحِرْصِ عَلَى طَلَبِ الزِّيَادَةِ فَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بالذات الْعَظِيمَةِ وَقَوْلُهُ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَأَنْوَاعِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالسَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ.

ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَقَالَ أَصْحَابُنَا: مَعْنَى هَدانَا اللَّهُ أَنَّهُ أَعْطَى الْقُدْرَةَ وَضَمَّ إِلَيْهَا الدَّاعِيَةَ الْجَازِمَةَ وَصَيَّرَ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ وَتِلْكَ الدَّاعِيَةَ مُوجِبًا لِحُصُولِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ فَإِنَّهُ لَوْ أَعْطَى الْقُدْرَةَ وَمَا خَلَقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ لَمْ يَحْصُلِ الْأَثَرُ وَلَوْ خَلَقَ اللَّهُ الدَّاعِيَةَ الْمُعَارِضَةَ أَيْضًا لِسَائِرِ الدَّوَاعِي الصَّارِفَةِ لَمْ يَحْصُلِ الْفِعْلُ أَيْضًا. أَمَّا لَمَّا خَلَقَ الْقُدْرَةَ وَخَلَقَ الدَّاعِيَةَ الْجَازِمَةَ وَكَانَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِيَةِ الْمُعَيَّنَةِ مُوجِبًا لِلْفِعْلِ كَانَتِ الْهِدَايَةُ حَاصِلَةً فِي الْحَقِيقَةِ بِتَقْدِيرِ/ اللَّهِ تَعَالَى وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ.

وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: التَّحْمِيدُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى الْعَقْلَ وَوَضَعَ الدَّلَائِلَ وَأَزَالَ الْمَوَانِعَ وَعِنْدَ هَذَا يُرْجَعُ إِلَى مَبَاحِثِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «مَا كُنَّا» بِغَيْرِ وَاوٍ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَاقُونَ بِالْوَاوِ وَالْوَجْهُ فِي قراءة ابن عامر ان قوله: ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ جَارٍ مَجْرَى التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: هَدانا لِهذا فَلَمَّا كَانَ أَحَدُهُمَا عَيْنَ الْآخَرِ وَجَبَ حَذْفُ الْحَرْفِ الْعَاطِفِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُهْتَدِيَ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَإِنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ لَمْ يَهْتَدِ بَلْ نَقُولُ: مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْأَوْلِيَاءِ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ فَقَدْ فَعَلَهُ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ وَإِنَّمَا حَصَلَ الِامْتِيَازُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ بِسَعْيِ نَفْسِهِ وَاخْتِيَارِ. نَفْسِهِ فَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَصَلَ لِنَفْسِهِ الْإِيمَانُ وَهُوَ الَّذِي أَوْصَلَ نَفْسَهُ إِلَى دَرَجَاتِ الْجِنَانِ وَخَلَّصَهَا مِنْ دِرْكَاتِ النِّيرَانِ فَلَمَّا لَمْ يَحْمَدْ نَفْسَهُ الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا حَمِدَ اللَّهَ فَقَطْ عَلِمْنَا أَنَّ الْهَادِيَ لَيْسَ إِلَّا اللَّهَ سُبْحَانَهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>