ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَهَذَا مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حِينَ رَأَوْا مَا وَعَدَهُمُ الرُّسُلُ عِيَانًا وَقَالُوا: لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَلِكَ النِّدَاءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُنَادِي هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الزَّجَّاجُ في كلمة «ان» هاهنا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ وَالْمَعْنَى: نُودُوا بِأَنَّهُ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أَيْ نُودُوا بِهَذَا الْقَوْلِ. وَالثَّانِي: قَالَ: وَهُوَ الْأَجْوَدُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ «أَنْ» فِي مَعْنَى تَفْسِيرِ النِّدَاءِ وَالْمَعْنَى: وَنُودُوا أَيْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ وَالْمَعْنَى: قِيلَ لَهُمْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ كَقَوْلِهِ:
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا [ص: ٦] يَعْنِي أَيِ امْشُوا. قَالَ: إِنَّمَا قَالَ: «تِلْكُمُ» لِأَنَّهُمْ وُعِدُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَهُمْ هَذِهِ تِلْكُمُ الَّتِي وُعِدْتُمْ بِهَا وَقَوْلُهُ: أُورِثْتُمُوها فِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَعَانِي أَنَّ مَعْنَاهُ: صَارَتْ إِلَيْكُمْ كَمَا يَصِيرُ الْمِيرَاثُ إِلَى أَهْلِهِ وَالْإِرْثُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ وَلَا يُرَادُ بِهِ زَوَالُ الْمِلْكِ عَنِ الْمَيِّتِ إِلَى الْحَيِّ كَمَا يُقَالُ: هَذَا الْعَمَلُ/ يُورِثُكَ الشَّرَفَ وَيُورِثُكَ الْعَارَ أَيْ يُصَيِّرُكَ إِلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ أُعْطُوا تِلْكَ الْمَنَازِلَ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ فِي الْحَالِ فَصَارَ شَبِيهًا بِالْمِيرَاثِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُورِثُونَ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنْ كَافِرٍ وَلَا مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَهُ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَنْزِلٌ فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ رُفِعَتِ الْجَنَّةُ لِأَهْلِ النَّارِ فَنَظَرُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِيهَا فَقِيلَ لَهُمْ: هَذِهِ مَنَازِلُكُمْ لَوْ عَمِلْتُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ ثُمَّ يُقَالُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ رِثُوهُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَيُقَسَّمُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنَازِلُهُمْ»
وَقَوْلُهُ: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَعَلُّقُ مَنْ قَالَ الْعَمَلُ يُوجِبُ هَذَا الْجَزَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ يُوجِبُ هَذَا الْجَزَاءَ وَجَوَابُنَا: أَنَّهُ عِلَّةٌ لِلْجَزَاءِ لَكِنْ بِسَبَبِ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ عِلَّةً لَهُ لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ لِذَاتِهِ مُوجِبٌ لِذَلِكَ الْجَزَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَإِذَا أَتَى الْعَبْدُ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ وَقَعَتْ هَذِهِ الطَّاعَاتُ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ النِّعَمِ السَّالِفَةِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَصِيرَ مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ الْمُتَأَخِّرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: طَعَنَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى»
وَبَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ وَجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا: أَنَّ الْعَمَلَ لا يوجب دخول الجنة لذاته وانما يوجه لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ جَعَلَهُ عَلَامَةً عَلَيْهِ وَمَعْرِفَةً لَهُ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ الْمُوفِّي لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ دُخُولُ الْجَنَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ خِطَابٌ عَامٌّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَإِنَّمَا يَدْخُلُهَا بِعَمَلِهِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْفُسَّاقَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.