للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ

[الْعَنْكَبُوتِ: ٤٥] وَالْأَقْرَبُ أَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَفْسِيرًا لِكَوْنِهِمْ مُتَّقِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَرْكِ مَا لَا يَنْبَغِي وَفِعْلِ مَا يَنْبَغِي، فَالتَّرْكُ هُوَ التَّقْوَى، وَالْفِعْلُ إِمَّا فِعْلُ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ، أَوْ فِعْلُ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ التَّقْوَى الَّذِي هُوَ التَّرْكُ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، لِأَنَّ الْقَلْبَ كَاللَّوْحِ الْقَابِلِ لِنُقُوشِ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَاللَّوْحُ يَجِبُ تَطْهِيرُهُ أَوَّلًا عَنِ النُّقُوشِ الْفَاسِدَةِ، حَتَّى يُمْكِنَ إِثْبَاتُ النُّقُوشِ الْجَيِّدَةِ فِيهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْأَخْلَاقِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ التَّقْوَى وَهُوَ تَرْكُ مَا لَا يَنْبَغِي، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ فِعْلَ مَا يَنْبَغِي.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْإِيمَانُ إِفْعَالٌ مِنَ الْأَمْنِ، ثُمَّ يُقَالُ آمَنَهُ إِذَا صَدَقَهُ، وَحَقِيقَتُهُ آمَنَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ فَلِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى «أُقِرُّ وَأَعْتَرِفُ» وَأَمَّا مَا حَكَى أَبُو زَيْدٍ: مَا آمَنْتُ أَنْ أَجِدَ صَحَابَةً أَيْ مَا وَثِقْتُ، فَحَقِيقَتُهُ صِرْتُ ذَا أَمْنٍ، أَيْ ذَا سُكُونٍ وَطُمَأْنِينَةٍ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ حَسَنٌ فِي يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أَيْ يَعْتَرِفُونَ بِهِ أَوْ يَثِقُونَ بِأَنَّهُ حَقٌّ. وَأَقُولُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَيَجْمَعُهُمْ فِرَقٌ أَرْبَعُ.

الْفِرْقَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَانُ اسْمٌ لِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ وَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَالزَّيْدِيَّةُ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ، أَمَّا الْخَوَارِجُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ يَتَنَاوَلُ الْمَعْرِفَةَ بِاللَّهِ وَبِكُلِّ مَا وَضَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَلِيلًا عَقْلِيًّا أَوْ نَقْلِيًّا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَتَنَاوَلُ طَاعَةَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. فَقَالُوا مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ الْإِيمَانُ وَتَرْكُ كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ كُفْرٌ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ فَالْمُرَادُ بِهِ التَّصْدِيقُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ فُلَانٌ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ التَّصْدِيقَ، إِذِ الْإِيمَانُ بِمَعْنَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ لَا يُمْكِنُ فِيهِ هَذِهِ التَّعْدِيَةُ، فَلَا يُقَالُ فُلَانٌ آمَنَ بِكَذَا إِذَا صَلَّى وَصَامَ، بَلْ يُقَالُ فُلَانٌ آمَنَ بِاللَّهِ كَمَا يُقَالُ صَامَ وَصَلَّى لِلَّهِ، فَالْإِيمَانُ الْمُعَدَّى بِالْبَاءِ يَجْرِي عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ، أَمَّا إِذَا ذُكِرَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُعَدًّى فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنَ الْمُسَمَّى اللُّغَوِيِّ- الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ- إِلَى مَعْنًى آخَرَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ كُلِّ الطَّاعَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْ مَنْدُوبَةً، أَوْ مِنْ بَابِ الْأَقْوَالِ أَوِ الْأَفْعَالِ أَوِ الِاعْتِقَادَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ وَأَبِي الْهُذَيْلِ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ فَقَطْ دُونَ النَّوَافِلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ اجْتِنَابِ كُلِّ مَا جَاءَ فِيهِ الْوَعِيدُ، فَالْمُؤْمِنُ عِنْدَ اللَّهِ كُلُّ مَنِ اجْتَنَبَ كُلَّ الْكَبَائِرِ، وَالْمُؤْمِنُ عِنْدَنَا كُلُّ مَنِ اجْتَنَبَ كُلَّ مَا وَرَدَ فِيهِ الْوَعِيدُ، وَهُوَ قَوْلُ النَّظَّامِ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ: شَرْطُ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ اللَّهِ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ كُلِّهَا. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَدِيثِ فَذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إِيمَانٌ كَامِلٌ وَهُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلُّ طَاعَةٍ إِيمَانٌ عَلَى حِدَةٍ، وَهَذِهِ الطَّاعَاتُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا إِيمَانًا إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُرَتَّبَةً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْمَعْرِفَةُ. وَزَعَمُوا أَنَّ الْجُحُودَ وَإِنْكَارَ الْقَلْبِ كُفْرٌ، ثُمَّ كَلُّ مَعْصِيَةٍ بَعْدَهُ كُفْرٌ عَلَى حِدَةٍ، وَلَمْ يَجْعَلُوا شَيْئًا مِنَ الطَّاعَاتِ إِيمَانًا مَا لَمْ تُوجَدِ الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ، وَلَا شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي كُفْرًا مَا لَمْ يُوجَدِ الْجُحُودُ وَالْإِنْكَارُ، لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ مَا هُوَ أَصْلُهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ. الثَّانِي:

زَعَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِلطَّاعَاتِ كُلِّهَا وَهُوَ إِيمَانٌ وَاحِدٌ وَجَعَلُوا الْفَرَائِضَ وَالنَّوَافِلَ كُلَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْإِيمَانِ، وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْفَرَائِضِ فَقَدِ انْتَقَصَ إِيمَانُهُ، وَمَنْ تَرَكَ النَّوَافِلَ لَا يَنْتَقِصُ إِيمَانُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ اسْمٌ لِلْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِلِ.