للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ مَعًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ عَلَى مَذَاهِبَ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِيمَانَ إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَمَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: اخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَةِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ- سَوَاءٌ كَانَ اعْتِقَادًا تَقْلِيدِيًّا أَوْ كَانَ عِلْمًا صَادِرًا عَنِ الدَّلِيلِ- وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِأَنَّ الْمُقَلِّدَ مُسْلِمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْعِلْمِ الصَّادِرِ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ. وَثَانِيهِمَا: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْعِلْمَ الْمُعْتَبَرَ فِي تَحَقُّقِ الْإِيمَانِ عِلْمٌ بِمَاذَا؟ قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: هُوَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ ثُمَّ/ إِنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اخْتِلَافُ الْخَلْقِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا جَرَمَ أَقْدَمَ كُلُّ طَائِفَةٍ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ عَدَاهَا مِنَ الطَّوَائِفِ. وَقَالَ أَهْلُ الْإِنْصَافِ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْعِلْمُ بِكُلِّ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِالْعِلْمِ أَوْ عَالِمًا لِذَاتِهِ وَبِكَوْنِهِ مَرْئِيًّا أَوْ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ مَعًا، وَهُوَ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ عَتَّابٍ الْمَرِيسِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ الْكَلَامُ الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ: الْإِيمَانُ إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ.

الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَانُ عِبَارَةٌ عَنْ عَمَلِ الْقَلْبِ فَقَطْ، وَهَؤُلَاءِ قَدِ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِالْقَلْبِ، حَتَّى أَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ ثُمَّ جَحَدَ بِلِسَانِهِ وَمَاتَ قبل أن يقربه فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ وَهُوَ قَوْلُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ. أَمَّا مَعْرِفَةُ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي حَدِّ الْإِيمَانِ. وَحَكَى الْكَعْبِيُّ عَنْهُ: أَنَّ الْإِيمَانَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ مَعَ مَعْرِفَةِ كُلِّ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَهُوَ قَوْلُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ الْبَجَلِيِّ.

الْفِرْقَةُ الرَّابِعَةُ: الَّذِينَ قَالُوا: الْإِيمَانُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ وَهُمْ فَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ هُوَ الْإِيمَانُ فَقَطْ، لَكِنَّ شَرْطَ كَوْنِهِ إِيمَانًا حُصُولُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْقَلْبِ، فَالْمَعْرِفَةُ شَرْطٌ لِكَوْنِ الْإِقْرَارِ اللِّسَانِيِّ إِيمَانًا، لَا أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ، وَهُوَ قَوْلُ غَيْلَانَ بْنِ مُسْلِمٍ الدِّمَشْقِيِّ وَالْفَضْلِ الرَّقَاشِيِّ وَإِنْ كَانَ الْكَعْبِيُّ قَدْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ قَوْلًا لِغَيْلَانَ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْمُنَافِقَ مُؤْمِنُ الظَّاهِرِ كَافِرُ السَّرِيرَةِ فَثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَحُكْمُ الْكَافِرِينَ فِي الْآخِرَةِ فَهَذَا مَجْمُوعُ أَقْوَالِ النَّاسِ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ بالقلب ونفتقر هاهنا إِلَى شَرْحِ مَاهِيَّةِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ فَنَقُولُ: إِنَّ مَنْ قَالَ الْعَالَمُ مُحْدَثٌ فَلَيْسَ مَدْلُولُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَوْنَ الْعَالَمِ مَوْصُوفًا بِالْحُدُوثِ، بَلْ مَدْلُولُهَا حُكْمُ ذَلِكَ الْقَائِلِ بِكَوْنِ الْعَالَمِ حَادِثًا، وَالْحُكْمُ بِثُبُوتِ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ مُغَايِرٌ لِثُبُوتِ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ فَهَذَا الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ بِالثُّبُوتِ أَوْ بِالِانْتِفَاءِ أَمْرٌ يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي كُلِّ لُغَةٍ بِلَفْظٍ خَاصٍّ، وَاخْتِلَافُ الصِّيَغِ وَالْعِبَارَاتِ مَعَ كَوْنِ الْحُكْمِ الذِّهْنِيِّ أَمْرًا وَاحِدًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الذِّهْنِيَّ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الصِّيَغِ وَالْعِبَارَاتِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ وَالدَّالُّ غَيْرُ الْمَدْلُولِ، ثُمَّ نَقُولُ هَذَا الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ غَيْرُ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِالشَّيْءِ قَدْ يَحْكُمُ بِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الذِّهْنِيَّ مُغَايِرٌ لِلْعِلْمِ، فَالْمُرَادُ مِنَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ هُوَ هَذَا الْحُكْمُ الذهني، بقي هاهنا بَحْثٌ لَفْظِيٌّ وَهُوَ أَنَّ الْمُسَمَّى بِالتَّصْدِيقِ فِي اللُّغَةِ هُوَ ذَلِكَ الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ أَمِ الصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ الذِّهْنِيِّ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: الْإِيمَانُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ بِكُلِّ مَا عُرِفَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ