للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَتُهُ جَائِزَةَ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الشَّرْطُ أَمْرًا جَائِزَ الْوُجُودِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ فَبِتَقْدِيرِ حُصُولِ ذَلِكَ الشَّرْطِ إِمَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ حُصُولُ الرُّؤْيَةِ أَوْ لَا يَتَرَتَّبَ فَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُصُولُ الرُّؤْيَةِ لَزِمَ الْقَطْعُ بِكَوْنِ الرُّؤْيَةِ جَائِزَةَ الْحُصُولِ وَإِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُصُولُ الرُّؤْيَةِ قَدَحَ هَذَا فِي صِحَّةِ قَوْلِهِ، إِنَّهُ مَتَى حَصَلَ ذَلِكَ الشَّرْطُ حَصَلَتِ الرُّؤْيَةُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ حُصُولَ الرُّؤْيَةِ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْجَبَلِ حَالَ حَرَكَتِهِ وَاسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ حَالَ حَرَكَتِهِ مُحَالٌ. فَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ الرُّؤْيَةِ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ مُمْتَنِعِ الْحُصُولِ لَا عَلَى شَرْطٍ جَائِزِ الْحُصُولِ فَلَمْ يَلْزَمْ صِحَّةُ مَا قُلْتُمُوهُ؟ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ اسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ حَالَ حَرَكَتِهِ أَنَّ الْجَبَلَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَالَ مَا جَعَلَ اسْتِقْرَارَهُ شَرْطًا لِحُصُولِ الرُّؤْيَةِ كَانَ سَاكِنًا أَوْ مُتَحَرِّكًا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَ حُصُولُ الرُّؤْيَةِ بِمُقْتَضَى الِاشْتِرَاطِ وَحَيْثُ لَمْ تَحْصُلْ عَلِمْنَا أَنَّ الْجَبَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا كَانَ مُسْتَقِرًّا وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا كَانَ مُتَحَرِّكًا. فَثَبَتَ أَنَّ الْجَبَلَ حَالَ مَا جَعَلَ اسْتِقْرَارَهُ شَرْطًا لِحُصُولِ الرُّؤْيَةِ كَانَ مُتَحَرِّكًا لَا سَاكِنًا. فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ كَوْنُ الْجَبَلِ مُسْتَقِرًّا حَالَ كَوْنِهِ سَاكِنًا/ فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي عَلَّقَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حُصُولِهِ حُصُولَ الرُّؤْيَةِ هُوَ كَوْنُ الْجَبَلِ مُسْتَقِرًّا حَالَ كَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا وَأَنَّهُ شَرْطٌ مُحَالٌ.

وَالْجَوَابُ: هُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ حَالِ الْجَبَلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُغَايِرٌ لِاعْتِبَارِ حَالِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُتَحَرِّكٌ أَوْ سَاكِنٌ وَكَوْنُهُ مُمْتَنِعَ الْخُلُوِّ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ لَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَ حَالِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُتَحَرِّكٌ أَوْ سَاكِنٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْءَ لَوْ أَخَذْتَهُ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مَوْجُودًا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَلَوْ أَخَذْتَهُ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مَعْدُومًا كَانَ وَاجِبَ الْعَدَمِ فَلَوْ أَخَذْتَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ مَوْجُودًا أَوْ كَوْنِهِ معدوما كان ممكن الوجود فكذا هاهنا الَّذِي جُعِلَ شَرْطًا فِي اللَّفْظِ هُوَ اسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ وَهَذَا الْقَدْرُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي جُعِلَ شَرْطًا أَمْرٌ مُمْكِنُ الْوُجُودِ جَائِزُ الْحُصُولِ وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِبِنَاءِ الْمَطْلُوبِ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ الْوُجُوهِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ جَوَازِ الرُّؤْيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَهَذَا التَّجَلِّي هُوَ الرُّؤْيَةُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ يُجَلِّي لِذَلِكَ الشَّيْءِ وَإِبْصَارَ الشَّيْءِ أَيْضًا يُجَلِّي لِذَلِكَ الشَّيْءِ. إِلَّا أَنَّ الْإِبْصَارَ فِي كَوْنِهِ مُجَلِّيًا أَكْمَلُ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَفْهُومِ الْأَكْمَلِ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْرِيرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُطِيقُ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلِ أَنَّ الْجَبَلَ مَعَ عَظَمَتِهِ لَمَّا رَأَى اللَّهَ تَعَالَى انْدَكَّ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ وَلَوْلَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّجَلِّي مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمَقْصُودُ. فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا هُوَ أَنَّ الْجَبَلَ لَمَّا رَأَى اللَّهَ تَعَالَى انْدَكَّتْ أَجْزَاؤُهُ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى جَائِزُ الرُّؤْيَةِ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: الْجَبَلُ جَمَادٌ وَالْجَمَادُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَرَى شَيْئًا إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي ذَاتِ الْجَبَلِ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالْفَهْمَ ثُمَّ خَلَقَ فِيهِ رُؤْيَةً مُتَعَلِّقَةً بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سَبَأٍ: ١٠] وَكَوْنُهُ مُخَاطَبًا بِهَذَا الْخِطَابِ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ فِيهِ فَكَذَا هاهنا فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَائِزُ الرُّؤْيَةِ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: إِنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى تَمْتَنِعُ رُؤْيَتُهُ فَوَجَبَ صَرْفُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ إِلَى التَّأْوِيلَاتِ. أَمَّا دَلَائِلُهُمُ الْعَقْلِيَّةُ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ ضَعْفَهَا وَسُقُوطَهَا فَلَا حَاجَةَ هُنَا إِلَى ذِكْرِهَا. وَأَمَّا دَلَائِلُهُمُ السَّمْعِيَّةُ فَأَقْوَى مَا لَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تعالى: لا تُدْرِكُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>