الْأَبْصارُ
[الانعام: ١٠٣] قد سَبَقَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ الدَّقِيقَةِ وَاللَّطَائِفِ الْعَمِيقَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَدَمِ الرُّؤْيَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَرانِي وَتَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَرَى اللَّهَ الْبَتَّةَ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْقِيَامَةِ وَمَتَى ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَرَاهُ الْبَتَّةَ/ وَمَتَى ثَبَتَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَى فَهَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ ثَلَاثَةٌ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فَتَقْرِيرُهَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَا نُقِلَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ كَلِمَةَ «لَنْ» لِلتَّأْبِيدِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ عَلَى أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَيْسَ يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ كِتَابٌ مُعْتَبَرٌ وَلَا نَقْلٌ صَحِيحٌ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْيَهُودِ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [الْبَقَرَةِ: ٩٥] مَعَ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: لَنْ تَرانِي يَتَنَاوَلُ الْأَوْقَاتَ كُلَّهَا بِدَلِيلِ صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ أَيِّ وَقْتٍ أُرِيدَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَمُقْتَضَى الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي صَرْفِ الصِّحَّةِ لَا فِي صَرْفِ الْوُجُوبِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ لَنْ أَفْعَلَ كَذَا يُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ فِعْلَهُ يُنَافِي حَالَتَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الْحَجِّ: ٧٣] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ مُنَافِيَةٌ لِلْإِلَهِيَّةِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ (لَنْ) لِتَأْكِيدِ نَفْيِ مَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ وَالسُّؤَالُ إِنَّمَا وَقَعَ عَنْ تَحْصِيلِ الرُّؤْيَةِ فِي الْحَالِ فَكَانَ قَوْلُهُ: لَنْ تَرانِي نَفْيًا لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ فَأَمَّا أَنْ يُفِيدَ النَّفْيَ الدَّائِمَ فَلَا. فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: فَقَالُوا: الْقَائِلُ اثْنَانِ: قَائِلٌ يَقُولُ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ وَمُوسَى أَيْضًا يَرَاهُ وَقَائِلٌ يَنْفِي الرُّؤْيَةَ عَنِ الْكُلِّ أَمَّا الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِهِ لِغَيْرِ مُوسَى وَنَفْيِهِ عَنْ مُوسَى فَهُوَ قَوْلٌ خَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: فَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَنْ نَفَى الْوُقُوعَ نَفَى الصِّحَّةَ فَالْقَوْلُ بِثُبُوتِ الصِّحَّةِ مَعَ نَفْيِ الْوُقُوعِ قَوْلٌ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ بَاطِلٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ بِنَاءَ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الْمُقَدِّمَةِ الْأَوْلَى فَلَمَّا ثَبَتَ ضَعْفُهَا سَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِالْكُلِّيَّةِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ لِلْقَوْمِ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ خَرَّ صَعِقًا وَلَوْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ جَائِزَةً. فَلِمَ خَرَّ عِنْدَ سُؤَالِهَا صَعِقًا؟
وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لِلتَّنْزِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَنْزِيهَ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ تَنْزِيهًا لَهُ عَنِ الرُّؤْيَةِ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهُ اللَّهِ إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، فَوَجَبَ كَوْنُ الرُّؤْيَةِ مِنَ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ عَلَى اللَّهِ مُمْتَنِعَةٌ.
وَالْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى لَمَّا أَفَاقَ أَنَّهُ قَالَ: تُبْتُ إِلَيْكَ وَلَوْلَا أَنَّ طَلَبَ الرُّؤْيَةِ ذَنْبٌ لَمَا تَابَ مِنْهُ وَلَوْلَا أَنَّهُ ذَنْبٌ يُنَافِي صِحَّةَ الْإِسْلَامِ لَمَا قَالَ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: الرُّؤْيَةُ كَانَتْ جَائِزَةً إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَهَا بِغَيْرِ الْإِذْنِ وَحَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute