للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: فَاضْرِبُوا تَكْلِيفٌ مُخْتَصُّ بِحَالَةِ الْحَرْبِ عِنْدَ اشْتِغَالِ الْكُفَّارِ بِالْحَرْبِ، فَأَمَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ فَهَذَا التَّكْلِيفُ مَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ. وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَشَارَ/ الصَّحَابَةَ فِي أَنَّهُ بِمَاذَا يُعَامِلُهُمْ؟ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ النَّصُّ مُتَنَاوِلًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ، لَكَانَ مَعَ قِيَامِ النَّصِّ الْقَاطِعِ تَارِكًا لِحُكْمِهِ وَطَالِبًا ذَلِكَ الْحُكْمَ مِنْ مُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ، وَثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ وَاجِبًا حَالَ الْمُحَارَبَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَدِيمَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا وَرَاءَ وَقْتِ الْمُحَارَبَةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ شَافٍ.

وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ ثَالِثًا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَكَمَ بِأَخْذِ الْفِدَاءِ، وَأَخْذُ الْفِدَاءِ مُحَرَّمٌ.

فَنَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَخْذَ الْفِدَاءِ مُحَرَّمٌ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فَنَقُولُ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِكُمْ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حُصُولُ الْعِتَابِ عَلَى الْأَسْرِ لِغَرَضِ أَخْذِ الْفِدَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الْفِدَاءِ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا. الثَّانِي: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ الْأَوْلَى: أَنْ نَأْخُذَ الْفِدَاءَ لِتَقْوَى الْعَسْكَرُ بِهِ عَلَى الْجِهَادِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا طَلَبُوا ذَلِكَ الْفِدَاءَ لِلتَّقَوِّي بِهِ عَلَى الدِّينِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى ذَمِّ مَنْ طَلَبَ الْفِدَاءَ لِمَحْضِ عَرَضِ الدُّنْيَا وَلَا تَعَلُّقَ لِأَحَدِ الْبَابَيْنِ بِالثَّانِي. وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ بِعَيْنِهِمَا هُمَا الْجَوَابَانِ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.

وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ رَابِعًا: أَنَّ بُكَاءَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ لَمَّا خَالَفَ أَمْرَ اللَّه فِي الْقَتْلِ، وَاشْتَغَلَ بِالْأَسْرِ اسْتَوْجَبَ الْعَذَابَ، فَبَكَى الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اجْتَهَدَ فِي أَنَّ الْقَتْلَ الَّذِي حَصَلَ هَلْ بَلَغَ مَبْلَغَ الْإِثْخَانِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّه بِهِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ وَوَقَعَ الْخَطَأُ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ، وَحَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، فَأَقْدَمَ عَلَى الْبُكَاءِ لِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى.

وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ خَامِسًا: أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ إِنَّمَا نَزَلَ بِسَبَبِ أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّه بِالْقَتْلِ، وَأَقْدَمُوا عَلَى الْأَسْرِ حَالَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الِاشْتِغَالُ بِالْقَتْلِ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي شَرْحِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ حَسُنَ إِدْخَالُ لَفْظَةِ كَانَ على لفظة تكون فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُ مَا كانَ مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَالتَّنْزِيهُ، أَيْ مَا يَجِبُ وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ وَنَظِيرُهُ مَا كَانَ للَّه أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ لِنَبِيٍّ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ لَكَ، وَأَمَّا/ مَنْ قَرَأَ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ فَمَعْنَاهُ: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَا كَانَ يَنْبَغِي حُصُولُهُ لِهَذَا النَّبِيِّ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: (أَسْرَى) جَمْعٌ، وَ (أُسَارَى) جَمْعُ الْجَمْعِ. قَالَ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَ (أَسَارَى) وَهِيَ جَائِزَةٌ كَمَا نَقَلْنَا عَنْ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ نَقَلَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ بِهِ وَقَوْلُهُ: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ فِيهِ بَحْثَانِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْإِثْخَانُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عِبَارَةٌ عَنْ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ، يُقَالُ: قَدْ أَثْخَنَهُ الْمَرَضُ إِذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>