اشْتَدَّ قُوَّةُ الْمَرَضِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَثْخَنَهُ الْجِرَاحُ، وَالثَّخَانَةُ الْغِلْظَةُ فَكُلُّ شَيْءٍ غَلِيظٍ، فَهُوَ ثَخِينٌ. فَقَوْلُهُ: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ مَعْنَاهُ حَتَّى يَقْوَى وَيَشْتَدَّ وَيَغْلِبَ وَيُبَالِغَ وَيَقْهَرَ، ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. قَالُوا الْمُرَادُ مِنْهُ:
أَنْ يُبَالِغَ فِي قَتْلِ أَعْدَائِهِ. قَالُوا وَإِنَّمَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُلْكَ وَالدَّوْلَةَ إِنَّمَا تَقْوَى وَتَشْتَدُّ بِالْقَتْلِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنَ الْأَذَى ... حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ
وَلِأَنَّ كَثْرَةَ الْقَتْلِ تُوجِبُ قُوَّةَ الرُّعْبِ وَشِدَّةَ الْمَهَابَةِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الْجَرَاءَةِ، وَمِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ (حَتَّى) لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ. فَقَوْلُهُ: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْدَ حُصُولِ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْأَسْرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا فَالْمُرَادُ الْفِدَاءُ، وَإِنَّمَا سَمَّى مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَمَتَاعَهَا عَرَضًا، لِأَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهُ وَلَا دَوَامَ، فَكَأَنَّهُ يَعْرِضُ ثُمَّ يَزُولُ، وَلِذَلِكَ سَمَّى الْمُتَكَلِّمُونَ الْأَعْرَاضَ أَعْرَاضًا، لِأَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهَا كَثَبَاتِ الْأَجْسَامِ لِأَنَّهَا تَطْرَأُ عَلَى الْأَجْسَامِ، وَتَزُولُ عَنْهَا مَعَ كَوْنِ الْأَجْسَامِ بَاقِيَةً، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ مَا يُفْضِي إِلَى السَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَعْرِضُ وَتَزُولُ وَإِنَّمَا يُرِيدُ مَا يُفْضِي إِلَى السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ الْبَاقِيَةِ الدَّائِمَةِ الْمَصُونَةِ عَنِ التَّبْدِيلِ وَالزَّوَالِ. وَاحْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَا كَائِنَ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا واللَّه يُرِيدُهُ لِأَنَّ هَذَا الْأَسْرَ وَقَعَ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَنَصَّ اللَّه عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ بَلْ يُرِيدُ مِنْهُمْ مَا يُؤَدِّي إِلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الطَّاعَةُ دُونَ مَا يَكُونُ فِيهِ عِصْيَانٌ.
وَأَجَابَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْهُ بِأَنْ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْأَسْرُ مِنْهُمْ طَاعَةً، وَعَمَلًا جَائِزًا مَأْذُونًا.
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ إِرَادَةِ كَوْنِ هَذَا الْأَسْرِ طَاعَةً، نَفِيُ كَوْنِهِ مُرَادَ الْوُجُودِ، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ الشَّيْءُ مُرَادٌ بِالْعَرَضِ مَكْرُوهٌ بِالذَّاتِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَالْمُرَادُ أَنَّكُمْ إِنْ طَلَبْتُمُ الْآخِرَةَ لَمْ يَغْلِبْكُمْ عَدُوُّكُمْ لِأَنَّ اللَّه عَزِيزٌ لَا يُقْهَرُ/ وَلَا يُغْلَبُ حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِ مَصَالِحِ الْعَالَمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا الْحُكْمُ إِنَّمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَلِيلِينَ، فَلَمَّا كَثُرُوا وَقَوِيَ سُلْطَانُهُمْ أَنْزَلَ اللَّه بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأُسَارَى حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [مُحَمَّدٍ: ٤] وَأَقُولُ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُوهِمُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً يَزِيدُ عَلَى حُكْمِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ كِلْتَا الْآيَتَيْنِ متوافقتان، فإن كلتاهما يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْإِثْخَانِ، ثُمَّ بَعْدَهُ أَخْذُ الْفِدَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَثُرَ أَقَاوِيلُ النَّاسِ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْكِتَابِ السَّابِقِ. وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا وَنَذْكُرُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَبَاحِثِ:
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّه سَبَقَ يَا مُحَمَّدُ بِحِلِّ الْغَنَائِمِ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ، لَمَسَّكُمُ الْعَذَابُ. وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ تَحْلِيلَ الْغَنَائِمِ وَالْفِدَاءَ هَلْ كَانَ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ مَا كَانَ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؟ فَإِنْ كَانَ التَّحْلِيلُ وَالْإِذْنُ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ امْتَنَعَ إِنْزَالُ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ قَبْلُ لَمْ يَحْصُلِ الْعِقَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِذْنَ مَا كَانَ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ حراماً